الأربعاء، 25 فبراير 2015

عادات المشاهدة التلفزيونية لدى المجتمع التارقي / رسالة شهادة الماستر / بوغراري شيخة / اشراف البروفيسور : مخلوف بوكروح. جامعة الجزائر 03 كلية علوم الاعلام و الاتصال. قسم الاتصال . فرع أبحاث الجمهور



مقـدمة:
 شهد القرن العشرون الكثير من مظاهر التحول التكنولوجي الذي شكل اختراع الراديو والتلفزيون والأقمار الصناعية ، وشبكات المعلومات الحديثة مما جعل الباحثين في مجال الاعلام والاتصال يصفون القرن العشرين بأنه عصر الاتصال والمعلومات الذي غير في حياة الأفراد ومهد لأنماط جديدة من العلاقات والسلوكيات كما أحدث آثارا تربوية  وثقافية ظهرت بوضوح من خلال تجديد اتجاهاتهم لما يتمتع به التلفزيون من جذب الانتباه وإثارة الاهتمام ، وشمل أيضا المجالات السياسية والانتخابية . بالرغم من التطور الحاصل في تكنولوجيات الإعلام والاتصال وظهور الوسائط الجديدة ، الا أنّ التلفزيون لا يزال يحظى باهتمام الجمهور ، ونظرا للتوسع في استعمال وسائل الاتصال الجماهيري ، أخذت المعاهد الأكاديمية تعتني بدراسة تلك الوسائل للتعرف على آثارها الاجتماعية المختلفة إذ حظي موضوع العلاقة بين وسائل الإعلام والمجتمع باهتمام الكثير من الباحثين . وحاولـت العديد من النظريات تفسير هذه العلاقة ، ولم تكن مهمة تفسيرها بالأمر السهل ، بسبب اختلاف رؤية كل نظرية عن الأخرى . وسوف نلاحظ أن هناك اتجاهين رئيسيين:
الاتجاه الأول : معني أساسا بالتأثيرات الناتجة عن التعرض لوسائل الاعلام مــن خلال محاولة معرفة ماذا تفعل وسائل الإعلام بالجمـهور؟   
الاتجاه الثاني : فهو معني بوظائف الوسائل الجماهيرية، هذا من خلال البحث عن ما يفعله الجمهور بوسائل الإعلام ؟
إن التحول المعتبر الذي شهدته دراسات التأثير ، زاد في الاهتمام بالمتلقي النشيط . والدراسات الخاصة به  فبعد أن كان يتم التركيز فقط على المؤلف وعلى القصد الذي يريد تبليغه تبلورت فكرة المستقبل او المرسل اليه وأصبح ينظر اليه كفرد فاعل ومنتج بعد أن كان سلبيا ، يتلقى الرسائل ولا يصدر ردود أفعال فظهر نوع جديد من الدراسات وأصبح التركيز منصبا على العلاقة الرابطة بين الرسالة والمتلقي وهذا مع ظهور أنموذج التفاعل والتأويلات لـ (morley David) حيث اقترح فكرة وجوب  فهم التكنولوجيا كنظام تقني ومادي واجتماعي وثقافي يشمل قواعد واستعمالات وعلاقات من خلال الاعتماد على المقترب الاثنوغرافي الذي يبنى على أساس " التحليل الجزئي" أي تحليل  (الأسر) .
من خلال ما سبق وطبقا لإيجابية صيرورة البحث العلمي وتطبيقا للمنهج الإثنوغرافي  وبالحاجة الماسة الى تغـطية النواقص في دراسات الجمهور في الجزائر لا سيما أن هذه الأخيرة تضم مجتمعات مختلفة في العادات والتقاليد باخــتلاف المواقع الجغرافية ، فقد اخـترنا  دراسة عادات المشاهدة التلفزيونية  وقد اتخذنا المجتمع
 التـارقي  كوحدة للتحليل بوصفه مجتمع عريق له عادات وتقالـيد ولغة خاصـة به ، فحــاولنا تطبيق المنـهج الإثنوغرافي في أنماط المشاهدة التلفزيونية لبعض الأسر التـارقية من مدينة جانت.
قمنا بتقسيم دراسنا الى خمسة فصول : الفصل الاول " الاطار المنهجي للدراسة " وفيها عرضنا الخطوات المنهجية للدراسة والطرق المنتهجة في هذا المنهج وما يميزه عن مختلف المناهج ، ثم تطرقنا في الفصل الثاني الى الاطار النظري للدراسة ، والتي تناولنا فيه مبحثين ، الاول تضمن الانثربولوجيا والأثنولوجيا والاثنوغرافيا والثاني إثنوغرافيا الاتصال ودراسات الجمهور  ، والفصل الثالث تضمن مبحثين الأول  التلقي وبناء المعنى من خلال مشاهدة البرامج التلفزيونية والثاني تضمن التفاعل الاجتماعي في الاسرة .

وتطرقنا في الفصل الرابع الى مبحثين ، المبحث الأول  عرفنا فيه على المجتمع التارقي ومكانة المرأة فيه ،  وتعرضنا في المبحث الثاني الى مدينة جانت وسكانها ، اللغة التارقية وحروفها ، أما الفصل الخامس فهو الإطار التطبيقي للدراسة وتضمن في المبحث الاول الى وصف عادات المشاهدة التلفزيونية لدى الأسر التارقية واتجاهاتها نحو التلفزيون ، وقد عرضنا البطاقة الفنية لكل عائلة وأنماط المشاهدة التلفزيونية لكل أسرة من عينة البحث وكذا اتجاهات الافراد لمضامين التلفزيون أما المبحث الثاني فقد تضمن التلقي وانواعه داخل الاسرة التارقية واهتممنا بـ : سلطة اتخاذ  القرار في المشاهدة التلفزيونية وانتقاء البرامج ، وممارسة الافراد للتلـقي وتفاعلهم اثناء التلـقي وتبادلهم للتأويلات وإنتاج المعاني ومقارنتهم من خلال طريقة المشاهدة التلفـزيونية وتسمياتهم للبرامج والشخـصيات وفـي الاخـير استنتجنا انواع تلـقي الاسر التـارقية للمضامين التلـفزيونية وخـاتمة . 

الفصل الاول : الإطار المنـهجي للدراسة .
1 ) الإشكالية :
يحتل التلفزيون مكانة مهيمنة في فضاء الاتصال الجماهيري لاعتماده على عنصر الصوت والصورة في نقل مختلف المضامين الإعلامية ، تساهم فيه مجموعة من مختلف الاختصاصات والمهن كونه يخاطب كل شرائح المجتمع مهما تباينت مستوياتهم التعليمية أو فيما يتعلق بحالتهم الاقتصادية فأخذت العلاقة بين أفراد الأسرة شكلاً مختصراً بدخول التلفزيون إلى منازلها واتساع المساحة الزمنية المخصصة للبث ، وصار بإمكانها من خلال التحكم عن بعد ، التنقل بين القنوات المتعددة كما تشاء ، لا سيما بعد الانتقال من البث التماثلي الى البث الرقمي ، وأصبح هذا الضيف يفرض نفسه علينا.  وقد رافق هذا التطور تخوف الدارسين من تأثير هذه الوسيلة على الأطفال والمراهقين وإعاقة مسألة التعليم بعد توصل عدة دراسات الى إحصائيات تربط مشاهدة التلفزيون بنسبة الذكاء[1] ، فخاصية الصوت والصوت التي يتميز بها التلفزيون تستطيع حسب علماء النفس التلاعب بالعقول والخلط بين الحقيقة والخيال وقدراته على  تفكيك الروابط الاجتماعية وبث العنف في عقل المتلقي ووجدانه[2]. ومع تطور وسائل الإعلام وظهور مستخدمي الوسائط الجديدة  مثل : (الانترنت ، جمهور الواب ، الجمهور المشبّك، جمهور على الخط ) التي تتجاوز الحدود الزمنية والمكانية للأفراد وتغزو بكثافة الدراسات التي تتناول الجمهور حيث اختلفت النظرة الى السلوك الاتصالي وظهرت طرق جديدة للتحليل  بعدما أُثيرت تعقيدات في المناهج التي حاولت فهم ودراسة هذه الوسيلة في  الحيز الأسري ، إن التطور الحاصل في وسائل الإعلام والاتصال دفع الباحثين إلى إيجاد  ومقاربات تستجيب لمقتضيات هذا التطور . وبهذا برزت " الدراسات الاثنوغرافية " او ما يسمى بالمقترب الاثنوغرافي بحيث سلط الباحثون الضوء على الجمهور المتلقي الذي أصبح يفهم ويؤول الرسالة الإعلامية وينتج معاني ويتفاعل مع بعضه البعض ومع الرسالة الإعلامية ، وذلك بالنزول الى الميدان من اجل التمكن من وصف سلوك الأشخاص في سياقهم الثقافي على أساس الملاحظات اليومية  بمعايشة الجمهور واستخلاص ما يكتسبونه أثناء وبعد تعرضهم لوسائل الإعلام داخل السياق المنزلي .
ونظرا لتوفر الجزائر من شمالها الى جنوبها  على  جماعات مختلفة من السكان ( عرب ، شاوية ، بني مزاب ، القبائل ، التوارق)  وبحكم الطبيعة المجتمع  بالجنوب الجزائري وغيرها من  العوامل التي جعلت التلفزيون انسب وسيلة حسب بعض العائلات التي من خلالها يشبعون حاجياتهم ورغباتهم حيث أصبح التلفزيون مصدرا لانتقاء عادات جديدة تؤثر في نمط الحياة ، اللغة ، اللباس وغيرها ، وقد اخترنا المجتمع التارقي كونه من أعرق المجتمعات وأكبرها وباعتباره مجتمعًا مترابطًا مع بعضه البعض ومتعاونًا ومحافظًا على عاداته وتقاليده ويقدر العلاقات الإنسانية كصلة الرحم والجيرة ويحاول الابتعاد عن ما يقمع هذه القيم كتأثير وسائل الإعلام ، وكوحدة تحليل قمنا بالتعايش مع بعض العائلات  لرصد سلوكيات وتفاعلات هذه الشريحة تجاه التلفزيون ، ومدى استجابتها أو رفضها للمضامين التي تبثها التلفزيون وكيفية تأويلها للرسائل الإعلامية والاختلافات الموجودة بين الأفراد بحكم تباين سنهم وجنسهم ومحيطهم لمعرفة عادات وسلوك الأسر التارقية أثناء مشاهدتهم للتلفزيون. وهذا بهدف التوصل الى الإجابة عن التساؤل الجوهري لهذه الدراسة الذي مفاده :
ما هي عادات المشاهدة التلـفزيونية لدى الأسرة الـتارقية ؟
وبناءا على ما تقدم في الإشكالية يمكن تفكيك السؤال المركزي إلى التساؤلات الفرعية التالية:

1. ما هي القنوات التلفزيونية المختارة من قبل الأسر التارقية ؟ ، وما هي أنواع المضامين المنتقاة من قبل كل فرد ؟.
2. ما مدى فهم أفراد الأسرة التارقية للغة ومضامين برامج التلفزيون ؟
3. من هو صاحب سلطة اتخاذ قرار المشاهدة التلفزيونية لدى كل أسرة ؟ ، وعلى أي أساس يكون ذلك ؟ .
4. ما هـي مختلف التأويلات الناتجة عن عملية التلقي ؟.

2 ) أهمية الدراسة :
لقد حظيت دراسات الجمهور بأهمية كبيرة في علوم الإعلام والاتصال وتأتي في مقدمة هذا الاهتمام المقاربة الاثنوغرافية التي بدأ في استخدامها في الدوائر الأكاديمية بصورة عامة 2 ، منذ الثمانينات  من القرن الماضي في المجال الاجتماعي وقد فتحت هذه المناهج البحثية آفاقاً جديدة  في البحث الاجتماعي ودراسة الكثير من القضايا التي لم تدرس من خلال ارتباطاتها الثقافية والإيديولوجية كما أسهمت هذه البحوث في طرق موضوعات جديدة من خلال ارتباطها بالثقافة والايدولوجيا حيث لا ينظر إلى الثقافة على أنها مجرد انعكاسات لقوى بنائية وإنما كنظام للمعاني والأفكار ، اللغة ، الطبقة الاجتماعية ، ويعد المنهج الإثنوغرافي  من أهم المقاربات المناسبة لدراسة الظواهر الاجتماعية في المجتمع . ونظرا لأهمية دراسة الجمهور والتركيز على السياق الذي يعتبر عنصرا أساسيا للتعرض ، وكذا الخصائص الإثنية  ومراعاة  التغييرات التي طرأت على المجتمعات مع تطور تكنولوجيات الإعلام والاتصال الجديدة وضرورة إجراء دراسات مكثفة لجميع مجالات التغيير وعلاقتها بوسائل الإعلام من بينها التلفزيون ، وأهمية  معرفة التأويلات المصاحبة لفعل المشاهدة وعلاقتها بالثقافات والخصائص العرقية والاثنية ، فنحن من خلال دراستنا نرغب في التوسع بهذا المجال لا سيما في ما يخص المنهج الاثنوغرافي وهنا قمنا بإسقاطه على شريحة مهمة في المجتمع الجزائري إلا وهي المجتمع التارقي وكذا قلة المواضيع التي تتناول هذا  المجتمع الدراسات في إطار المقاربة الاثنوغرافية وذلك لاكتشاف عملية الاتصال التي تكون داخل الأسرة التارقية ، وبين أفراد الأسرة الواحدة ، والمكانة التي يمتلكها التلفزيون وبرامجه داخل الأسرة التارقية .

3) أهداف الدراسة :
 نسعى من خلال هذه الدراسة إلى تحقيق بعض الأهداف أهمها :
1. التّقرب من الوسط أو الحيز الذي ننوي أن ننجز فيه بحثنا.
2.  الكشف عن أنماط المشاهدة لدى الأسر التارقية ولمعرفة لمن تكمن سلطة اتخاذ القرار في اختيار البرامج  التلفزيوني وعلى من تعود في ظل متغيري السن والنوع ومعرفة التفاعلات الاجتماعية والادراكات الناجمة عن الأثر المتبادل بين الأسر و التلفزيون ، وكذا عامل السياق المنزلي .
3. فهم السلوك الاتصالي  للجمهور ، من خلال تفسير طبيعة العلاقات بين الأسر المدروسة وكذا بين أفراد الأسرة الواحدة ، في ظل متغيري السن والنوع  وتفسيرهم لما يتعرضون له من مضامين تلفزيونية.
4. التعرف على البرامج والقنوات التي تحظى على اكبر نسبة مشاهدة من قبل الأسر التارقية
5. فهم  دلالات مختلف التأويلات التي يقدمها أفراد الأسر التارقية للبرامج التلفزيونية .
4 ) منهج البحث و أدواته :
أ ) منهج البحث:
أن منهج البحث يعني مجموعة من القواعد العلمية التي تهيمن على سير العقل ، وتحدد عملياته من أجل الوصول الى نتيجة معلومة ، وهو بهذا يقوم على التأمل والشعور.
ففي اللغة العربية : المنهج مصطلح لكلمتي النهج والمنهاج واللتان تعنيان الطريق الواضح.
في اللغة الفرنسية : المنهج مصطلح مرادف ( Méthode ) تعبر عن الخطوات الفكرية المنظمة والعقلانية الهادفة الى بلوغ نتيجة ما[3].
ان  أبحاث الإعلام والاتصال نشأت وترعرعت في أحضان التخصصات العلمية للعلوم الاجتماعية والإنسانية الأساسية وهو ما جعلها تعتمد أساسا على مناهج وأدوات بحث هذه العلوم المحتضنة لها في دراستها للظاهرة الاعلامية[4]. سادت ميدان البحث العلمي في العلوم الإنسانية والاجتماعية خلال القرن العشرين مناهج بحثية تعتمد البيانات الكمية الميدانية والتحليل الإحصائي لهذه البيانات وانصب التنافس في كسب المنزلة العلمية على درجة التعقيد والتفصيل في طرق جمع تلك البيانات وكيفية تحليلها وحققت تلك المناهج انتشارا واسعا بصورة توحي بأن من لا يلجأ إلى هذه الأساليب المعقدة لا يكون معدا إعدادا جيدا في أساليب البحث العلمي[5]
وقد فرضت علينا دراستنا الاعتماد على المنهج الإثنوغرافي ولما نتحدث عن هذا المنهج فإننا نقصد:
" مجمل المناهج التجريبية التي بواسطتها يقيم الاثنولوجي في حالة البحث الميداني ، العلاقة ذات المردود العلمي الأكثر بينه وبين ميدانه[6].
يقوم هذا المنهج على أساس الملاحظة الميدانية فيختار الباحث قبيلة أو مجتمعا ، في محاولته لتفهم ثقافته وتقاليده عن طريق دراسة قوامها الإنسان نفسه وكثيرا ما تقوم الدول المستعمرة بإتباع هذا المنهج لدراسة ثقافات الشعوب التي تقوم باستعمارها [7].
تعني الدراسة الوصفية لطريقة وأسلوب الحياة لشعب من الشعوب  أو مجتمع من المجتمعات فالعالم "هيرز كوفنتر" يرى في كتابة ( الإنسان وأعماله) بأن الإثنوغرافيا وصف للحضارات وبحث مشاكل النظرية المتعلقة بتحليل العادات البشرية للمجتمعات الإنسانية المتباينة فهي من أقدم فروع المعرفة في علم الأنثربولوجيا,كما تعرف بأنها وصف لثقافات وحياة الشعوب وذلك عن طريق الملاحظة.[8]
فالباحث الاثنوغرافي هو باحث من النوع المشاهد أو المشارك ، وبالتالي فإن البحث الاثنوغرافي يقع بين حدود البحث الكيفي السوسيولوجي لمجرد الفهم ، ومن بين البحث الإجرائي كون هدفه الفهم والمشاركة في التغيير نحو الأفضل [9].
فالمقترب الاثنوغرافي يختلف عن باقي الأبحاث الأخرى بمنهجيته في إجراءاته وأهدافه حيث أنه يقتضي قيام الباحث بمعايشة المجتمع موضوع الدراسة ( الاسر التارقية ) ، وما يميزه عن باقي الأبحاث الكمية ففي المنهج الاثنوغرافي يمكن للباحث أن يثير ردود أفعال معتمدة لدى المبحوث وتلك الطريقة تسهل اكتشاف أهم السلوكيات والقيم كمحاولة استفزاز المبحوث مثلا بإطلاق حكم ما من اجل التعرف على وجهة نظره.
 ولكي يتخلص الاثنوغرافي المخاطر التي تمس مصداقية عمله فهو مطالب بالموضوعية وذلك و لا بد له من  التعمق والتجرد من أي أحكام سابقة وعدم الاندهاش من أي شيء قد يبدو لديه غريبا ومحاولة التعايش مع العينة أي داخل المجتمعات المدروسة دون الوقوع في خطر الذاتية يعتبر من أهم الشروط الواجب التقيّد بها وذلك لا يتم إلا في حالة التمكن من مشكل اللغات وتجنب الاعتماد على مترجم لأن ذلك قد يفقد العمل مصداقيته[10].
وقد طبقنا خطوات هذا المنهج من خلال اختيارنا لثلاثة أسر تكون تارقية وتتكلم باللغة التارقية وقمنا بملاحظة أفرادها قبل وأثناء وبعد التعرض للتلفزيون ورصد سلوكياته وأخذنا مسألة السن والجنس والمستوى التعليمي في عين الاعتبار ، سجلنا نوع البيوت وعدد الغرف وأجهزة التلفزيون  والتكنولوجيات الأخرى و نوعها .
ب )أدوات البحث:
لقد استعنا في هذه الدراسة بالأدوات العلمية التالية : الملاحظة المباشرة  والمقابلة نصف موجهة.
أ. الملاحظة المباشرة :  تعد الملاحظة من الوسائل العلمية في جمع البيانات سواء تعلق الأمر بسلوك الأفراد في المواقف المختلفة أو الظروف المحيطة بهم ، أن تقنية الملاحظة الموجهة نحو السلوكيات والممارسات اليومية للأفراد تعتمد على تسجيل للقطات أو لمقاطع منها وللحركات التقنية ، وعلى تسجيل ردود الأفعال والخطابات التلقائية وتكون أحيانا حول محادثات مناسبتيه وغير رسمية فهذه التقنية تستعمل في حالات خاصة بالمواضيع السلوكية.[11]
وبما أننا ندرس الأنماط والسلوكيات الخاصة بالأسر التارقية اتجاه مشاهدتهم للمضامين التلفزيونية قمنا باختيار هذه الأداة كونها الأنسب لرصد عادات المشاهدة بكل موضوعية. فهي تصلح لمراقبة السلوك الفعلي الذي لا يمكن إخضاعه للوصف الكمي أو اللفظي مثل ردود الأفعال غير اللفظية التي يظهرها المشاهدون لحظة تعرضهم للبرامج التلفزيونية [12]. تَعتبِر الدراسات الاثنوغرافية الملاحظة تقنية أساسية من تقنيات البحث ، وذلك لملاحظة القواعد الثقافية الخاصة باستعمال التلفزيون ولمعرفة كيفية التحدث عن هذا الجهاز لهذا تم اعتمادنا على الملاحظة المباشرة كأداة في الدراسة الإثنوغرافية .
وتستعمل الملاحظة في عين المكان عادة في مشاهدة مجموعة ما ، قرية ، او جمعية أو أسرة بصف مباشرة وهذا من اجل اخذ معلومات كيفية تساعد على فهم المواقف والسلوكيات كما يمكن للملاحظة  في عين المكان ان تتخذ  أشكال عديدة أهمها بالمشاركة او دون المشاركة وقد اعتمدنا في دراستنا على المشاهدة على الملاحظة بالمشاركة ، وهي الملاحظة التي يقوم بها الباحث داخل المجتمع المبحوث دون الانفصال عن أفراده بحيث يخضع نفسه إلى ظروفهم المختلفة بمشاركتهم في حياتهم العادية والقيام بأعمالهم ، كأنه جزء منهم ، متجنبا ما من شأنه أن يثير الشبهات ضده حتى يحافظ على السير العادي للوضع في المجال المدروس . واستخدام هذا النوع من الملاحظة في تسجيل المعلومات عن كثب كما قام بذلك الباحثون الأنثروبولوجيون في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا أثناء دراسة التجمعات البشرية البدائية للتعرف على عاداتهم وتقاليدهم المنظمة لحياتهم من أجل الوصول الى أفضل السبل للتعامل معهم أملا في إخراجهم من بدائيتهم نحو ظروف حضارية أفضل.[13] وليس من الضروري عملية التخفي في الملاحظة مطلبا أساسيا فقد يفصح الباحث عن هويته ويكشف عن غرضه من الملاحظة وبمرور الوقت يألفه أفراد المجموعة ، ويصبح وجوده أمرا طبيعيا ، وتستلزم الملاحظة بالمشاركة أن يتقبل أفراد المجموعة الباحث عندما يقدم نفسه لهم ، لأن أي خطأ قد يؤدي إلى عدم قيامه بالملاحظة[14] .
          ب. المقابلة نصف الموجهة :  تعتبر المقابلة من أهم الوسائل البحثية لجمع المعلومات والبيانات من الميدان الاجتماعي و هي مكملة للملاحظة وبدون مواجهة الباحث او مقابلة المبحوث من اجل جمع الحقائق والبيانات المتعلقة بموضوع البحث ، لا يمكن للباحث التعرف على الحقائق ولا يستطيع تبويبها ولا تصنيفها ، ولا يمكنه أيضا تحليلها علميا يساعده على التوصل الى النتائج النهائية التي يستعملها في الكشف عن جوانبه المختلفة .[15]
تعتبر المقابلات ذات أهمية في الدراسات الاثنوغرافية ومناسبة لها لمعرفة الكيفية التي يدرك بها الناس ، وللتعرف على سلوكياتهم وفهم المسببات التي أدت لتلك السلوكيات الإعلامية الملاحظة فالمقابلة هنا تكون وجها لوجه وتستعمل لمساءلة الأفراد بصفة منعزلة اي كل فرد يسأل لوحده لمعرفة وجهة نظر كل فرد على حدا وكذا الاختلافات بين الأفراد وهذا ما يساعدنا في دراستنا اذ يتسنى لنا طرح الأسئلة بطريقة مرنة مما يشعر المستجوب بالراحة وبالتالي نفهم المستجوب الذي يعيد شرحه لبعض المواقف التي تعترضه وبالتالي  نفهم السلوكيات الغامضة .
  5 ) مجتمع البحث و عينته:
أ ) مجتمع البحث:
 يعرف مجتمع البحث بأنه مجموعة منتهية او غير منتهية من العناصر المحددة مسبقا لها خاصية تشترك بها وتميزها عن غيرها من العناصر الأخرى والتي يجري عليها أو التقصي [16].
وعليه حاولنا تحديد مجتمع بحثنا بطريقة تسمح لنا بدراسة عينتنا في سياقها الاجتماعي حيث مجتمع بحثنا هو المجتمع التـارقي ، الذي يتكون من مجموع الأسر التارقية بمعنى كل أسر المجتمع التارقي.
ب ) تحديد عينة الدراسة :
العينة هي كمية عددية من صحف أو برامج أو بشر ، تتخذ نموذجا أو البحث ، بطريقة علمية ، بحيث يمكن تصميم النتائج على ما تنطبق عليه العيّنة موضوع البحث ، وهي أيضا عبارة عن عدد محدد من المفردات التي سوف يتعامل الباحث معها منهجيا ، ويسجل من خلال هذا التعامل البيانات الأولية المطلوبة ، ويشترط في هذا العدد أن يكون ممثلا لمجتمع البحث في الخصائص والسمات التي يوصف من خلالها هذا المجتمع أي لابدّ من توافر الشمول والكمال والكفاية في العيّنة ، لأن أي غياب عن أحدهما سيؤدي بالضرورة إلى ظهور أخطاء تؤثر في اختيار العيّنة وصدق تمثيلها بالتالي للمجتمع الأصلي[17] .
ويتوقف حجم العينة على نسبة التقارب الموجود بين العينة والمجتمع الأصلي ، فإن كان هناك تجانس وتقارب بين أفراد العينة والمجتمع الأصلي ، فإنه يمكن أخذ عدد صغير ومعبر عن الواقع ، وإذا كان هناك تباين كبير بين أفراد المجتمع الأصلي فلا بدّ من عيّنة كبيرة وعريضة حتى يمكن أخذ معلومات كافية عن الموضوع[18]. ونظرا لتباين حجم عينة بحثنا وصعوبة دراسته كله ، ولتواجد التوارق في مناطق مختلفة من الجزائر اخترنا توارق مدينة جانت ، وارتأينا تحديد عينتنا كالتالي :
قمنا باختيار هذه الأسر عن طريق المعاينة غير الاحتمالية حيث يكون احتمال انتقاء عنصر من عناصر مجتمع البحث ليصبح ضمن العينة غير معروف ولا يسمح بتقدير درجة تمثيلية العينة المعدة ، بهذه الطريقة مقارنة بمجتمع البحث الأصلي[19]. وتختلف هذه المعاينة عن المعاينة الاحتمالية التي يكون فيها احتمال الانتقاء معروفا حيث تفترض في الباحث ان يتأكد من أن كل مفردة من مجتمع البحث ، التي يحتمل ان تكون مدرجة في عينة الدراسة ، ويرجع سبب اختيارنا للمعاينة غير الاحتمالية ، كونها الأكثر مناسبة للتحليل والتعمق في مختلف أنواع السلوكيات ، كما أن قاعدة مجتمع بحثنا غير تامة وغير محدودة لاتساعه وتشتته في مختلف أرجاء الوطن وكذا صعوبة الحصول على قائمة تضم جميع الأسر التارقية في إطار المشاهدة التلفزيونية ولعامل الوقت التأثير الكبير على اختيارنا.
وتعرف على أنها عملية سحب عينة من مجتمع بحث بانتقاء عناصر مثالية من هذا المجتمع حيث تبدو العناصر المختارة المكونة للعينة كنماذج تكون بمثابة صور نمطية لمجتمع البحث المراد دراسته[20]. اما في عملية الانتقاء فقد قمنا بالفرز الموجه وهي احد أنواع إجراءات الفرز غير الاحتمالي والتي تمكننا باختيار 03 عائلات اسر بطريقة قصديه من مدينة جانت ، وهي متوفرة على مجموعة الشروط تجعلنا أكثر تمثيلا لمجتمع البحث:
أ)  أن تتكون مفردات العينة من 03 عائلات تحتوي على والدين وولدين اي ذكر وأنثى على الأقل.
ب) تختلف أعمار الأولاد بين أطفال وبالغين حتى يتسنى لنا رصد التفاعلات والاختلافات التي تحدث بينهم.
ج)  تنتمي كل الأسر إلى نفس المستوى الاجتماعي والاقتصادي.
د) قمنا باختيار فترات الدراسة و ذلك نظرا لضيق الوقت و صعوبة الدراسة المعتمدة على الملاحظة المباشرة التي تتطلب العيش مع عينة البحث .
وتتطلب دراستنا معايشة الأسر التارقية والاعتماد على الملاحظة المباشرة كل هذا لرصد الأهداف المسطرة ، فقد خصصنا لكل أسرة 07 أيام لكل أسرة ومن كل أسبوع اخترنا ثلاث أيام نقوم من خلالها بالدراسة ، وتبقى أربع أيام خصصناها للمقابلات والتحليل وكل عائلة تختار أيام استقبالها لنا حسب ظروفها الشخصية .

6) الدراسات السابقة :
أ) دراسة دافيد مورلي Morley David[21]:
  تعتبر دراسة مورلي من أهم الدراسات التي طرحت موضوع حول التلقي المرتبط بوسيلة التلفزيون ، حيث تنطلق دراسته television Family عام 1986 من فكرة أن الجمهور نشط وفعّال ، و ذلك بتوضيح صيرورة عملية المشاهدة في السياق الأسري فاهتم بصيرورة مشاهدة التلفزيون مستخدما المنهج الإثنوغرافي ، فقام بدراسة 18 عائلة بريطانية  (جنوب لندن) تتكون الأسرة من شخصين بالغين وطفلين غلى الاقل لا يتجاوز عمرهما 18 سنة ينتمون إلى الطبقة العاملة  ذات مستوى اجتماعي و ثقافي مختلف فعمل على استجوابهم وملاحظتهم بهدف اكتشاف الاختلافات بين الأسر وداخل كل أسرة ( بين أفرادها ) و ركز مورلي على علاقات السلطة بين الأفراد دون إهمال إطار  تحليل بينة الجمهور من حيث الطبقة و التعليم و الاديولوجية ، فكانت هذه الدراسة انطلاقة لعدة دراسات تهتم بالتحليل الجزئي ( الأسرة) فهي تطمح لتطويع العائلة  أو الأسرة كمكان فعال للممارسات الاجتماعية التي تتم تحت تأثير المحيط الاجتماعي والثقافي من جهة وتأثير الصفات الخاصة بكل أسرة من جهة أخرى ،كما توجه  (مورلي) رفقة (سلفرستون)  أيضا دراسة مشروعا بعنوان : [22]information of uses household The سنة 1989 لم يعد التلفزيون مركز الاهتمام الأساس حيث أصبح مورلي يهتم بمجموع التكنولوجيات المنزلية للإعلام والاتصال بما فيها التلفزيون وحاول تعريف فضاء  النقاشات  حول دور وسائل الإعلام في بناء وتكوين الهويات الثقافية واعتنى مورلي بدراسة استعمال التلفزيون في إطار سوسيوتقني  أكثر اتساعا ، وفي سنة 1992 اعتبر مورلي الاستماع  التلفزيوني نشاطا يوميا معقدا فهو منزلي ويمارس أساسا عائليًا.
تجدر الإشارة الى أن دراسة television Family تلتقي مع دراستنا في نقاط كثيرة ، فهي المصدر الأساسي الذي زودنا بفكرة بحثنا ، فهذه الدراسة انصبت اشكاليتها أساسا على فهم الكيفية التي يفسر بها التلفزيون من خلال الاعتماد على علاقات السلطة  والنوع ، كما هو الحال في  دراستنا ، وحتى من الناحية المنهجية فالتشابه كمن في دراسة عملية المشاهدة التلفزيونية في السياق الاسري   ( التحليل الجزئي ) وكذلك الاعتماد على المنهج الاثنوغرافي.
ب) دراسة علي قسايسية : "المنطلقات النظرية و المنهجية لدراسات التلقي"[23]
هي دراسة نقدية وتقييميه للأبحاث الأكاديمية على مستوى كلية الإعلام و الاتصال بجامعة الجزائر ، الباحث قام بجمع 06 أطروحات دكتوراه خلال الفترة من 1995 الى 2006 تهتم بدراسات الجمهور كموضوع للتأثير المفترض لواحدة من وسائل الإعلام التقليدية والالكترونية وقد تناولت العينة مجموعة من مختلف أصناف الجمهور من متفرجين مسرحيين الى مبحرين على الانترنت مرورا على مستمعي الإذاعة وقراء الصحف ومشاهدي التلفزيون ، ونحن ركزنا في بحثنا هذا على مشاهدي التلفزيون .
تتفق هذه الدراسة مع دراستنا في نقاط أهمها انها تعتبر المقاربة الاثنوغرافية المستخدمة منذ الثمانينات هي الأكثر ملائمة لدراسة سلوكيات الجمهور ودعت لمشروع مقاربة بديلة لدراسات الجمهور في الجزائر إلا وهي المقاربة الاثنوغرافية لدراسة التفاعلات الاجتماعية وحثها على استعمال هذه المقاربة ساعدنا كثيرا في تحديد منهج الدراسة ، وساعدنا أيضا في تحديد مفاهيم تخدم دراسات الجمهور بصفة عامة بما تحتويه من نظريات تكوين دراسات الجمهور  والاتجاه الامبريقي في أبحاث الجمهور .

د) دراسة وردة قراينية :" أنماط تلقي البرامج التلفزيونية لدى الأسرة الجزائرية"[24].
قامت الباحثة بدراسة أنماط تلقي الأسرة العربية العاصمية الجزائرية باستخدام المنهج الاثنوغرافي حيث قامت الباحثة بالتعرف على عادات تلقي وتأويل الخاصة بأفرادها واختلافات التأويل فيما بين افراد الاسرة الواحدة من خلال السمات الديموغرافية  ( السن ، النوع ، درجات التدين ، العادات ، اللهجة ...) وكما هو الحال بالنسبة لدراستنا التي تتعرض الى اختلافات الجنس والنوع  لملاحظة المجتمع التارقي. 
ولقد حاولنا التركير على جانب اللغة بحيث ان اللغة التي يستعملها الاسرة التارقية في التواصل فيما بينها هي اللغة التارقية ، وتعتبر دراسة الباحثة" وردة قراينية " هي الاولى في الجزائر من حيث انتهاجها للمقترب الاثنوغرافي ، الذي بدورنا اعتمدنا في دراستنا وقد توصلت الى ان سلطة التحكم في البرامج التلفزيونية تعود الى الرجال عادة ، وقد ساعدتنا دراستها في كيفية معرفة لمن تكمن السلطة في المشاهدة التلفزيونية لدى المجتمع التارقي وعلاقة السلطة لدى النوع والجنس .
ه) دراسة كنزة حاج حامدري " دور التلفزيون في تشكيل بعض القيم لدى المرأة الريفية الجزائرية"[25].
ركزت الباحثة على ثلاث مناطق من الجزائر وهي عبارة عن قرى من مختلف ولايات الشمال الجزائري ، حيث تتوفر فيه شروط المبحوثات للتوصل الى نتائج صحيحة ،واعتمدت على المقاربة الاثنوغرافية ، وتعتبر دراسة الباحثة محاولة لفهم كيفية تشكل القيم لدى المرأة الريفية الجزائرية وتغيير القيم التي كانت سائدة وترسيخ قيم جديدة من خلال الادراكات الناجمة عن التلفزيون في السياق المنزلي كما فعلنا في دراستنا الا اننا ركزنا على عادات المشاهدة التلفزيونية وتلقي المضامين بالنسبة للمجتمع التارقي .
الباحثة  تهدف الى ابراز الفرق بين المجتمع الحضري والريفي وبين الجنسين في تفسير القيم التي تتضمنها التلفزيون ، وعادات المشاهدة التلفزيونية لدى المرأة الريفية ، ومعرفة القنوات المفضلة بالنسبة لها ومدى ترسيخ البرامج التلفزيونية لقيم جديدة لدى المرأة الريفية.
ت) دراسة مريم دهان: "أنماط المشاهدة التلفزيونية لدى المجتمع الميزابي"[26] .
الباحثة قامت بدراسة اثنوغرفية على عينة  تتكون من 08 اسر من مدينة غارداية كونه مجتمع يعيش داخل نسق اجتماعي وثقافي وسياسي وديني خاص به فهو متمسك بعاداته وتقاليده وعرقيته رغم التطور التكنولوجي ،  اعتمدت الباحثة  على أداة الملاحظة المباشرة والمقابلة النصف موجهة كما فعلنا تماما في دراستنا الا أننا تناولنا المجتمع التارقي ، لقد عايشت الباحثة هذه العائلات وخصصت لكل عائلة أسبوع كي يعتادوا عليها ثم بدأت بالملاحظة والمقابلة وعرفت مختلف عادات المشاهدة التلفزيونية لدى المجتمع الميزابي واهم البرامج التي يتابعونها  والقنوات المفضلة لديهم وكيفية تأويلهم للرسائل الإعلامية التي يتلقونها وأخذت مسألة الجنس والسن  والمستوى التعليمي في عين الاعتبار ورصدت الاختلافات بين الأسر وبين افراد الأسرة الواحدة ، وحاولت معرفة لمن تكمن السلطة في اختيار البرامج التلفزيونية . 

7) تحديـد مفاهيم المصطلحات:
أ) التـلقي :
هي مجموعة التوقعات الأدبية والثقافية التي يتسلح بها القارئ عن وعي أو غير وعي في تناوله للنص وقراءته[27].
والتلقي لا يتوقف عند زمن بل يُخلق في كل زمن ، ولكل زمن قرّاه وهذا التلقي يختلف من زمن لآخر حسب الظروف السياسية المحيطة ... ويختلف من قارئ لآخر حسب تكوينه النظري من حيث الميول والرغبات والقدرات وحسب خبرة المتلقي الاجتماعية والتاريخية والثقافية التي يحملها وكل هذا يشكل مخزوناً لدى القارئ يتم تلقي النص على أساسه ، وتشكل لديه أفق توقع يعمل النص على إخراجه[28].
ويخبرنا أفق التوقع كيف كان العمل يقيم ويؤول عند ظهوره ، وكيف إن هذا التأويل لا يعطي معنى نهائي للعمل ، ولكنه قابل لأن يُبدّل معناه ويغيّر, أو يزداد توضيحه مع تتابع الأزمنة ، ومع هذا فإننا لا نستطيع فهم العمل إلا بانصهار الأفاق بعضها مع  بعض من الماضي إلى الحاضر[29].
وهذا يعني بأننا لا نستطيع فصل النص الذي نقرؤه عن تاريخ تلقيه والأفق الأدبي الذي ظهر فيه ، وانتمى إليه أول مرة ، فالنص وسيط بين أفقنا والأفق الذي مثله أو يمثله ، وعن طريق مزج الأفاق بعضها مع بعض تنمو لدى متلقي النص الجديد قدرة على توقع بعض الدلالات والمعاني ، ولكن هذا التوقع ليس بالضرورة نفس التوقع المخزون لدى المتلقي فقد يحدث له شيء من الدهشة والمخالفة لما قد توقعه أوقد يكون النص مطابقاً لما توقعه ، فيحدث لأفقه تغيير أو تصحيح أو تعديل ، أو يقتصر على إعادة إنتاجه[30].
 لقد حولت النظرية العامة والنظريات الفرعية محاور الدراسة من محتوى الرسالة وعلاقاته بالتأثير الذي قد يحدث في سلوك الجمهور ، اي علاقة الرسالة بالتأثير الناجم عن محاولة الإجابة عن التساؤل الاولي : (ماذا تفعل وسائل الإعلام بالجمهور ؟) ، في نموذج ( lasswell 1948_1952) الى التركيز على مصير الرسالة بعدما يتلقاها الجمهور الإنتقائي القوي والفعال والنشط الذي أعيد له الإعتبار نتيجة تغيير الإستراتيجية الى (ماذا يفعل الجمهور بوسائل الإعلام ؟)  (elihu katz 1955) حيث أصبح التركيز  على العلاقة بين الرسالة والمتلقي[31].
التلقي كلمة مشتقة من الكلمة اليونانية (ceper) بمعنى تلقي واستقبال استلام واخذ ويقال " تلقى الشيء منه اي تلقنه"[32] .
ويشمل المفهوم الإجمالي للتلقي في آن واحد ، الاثر الذي يحدقه للعمل الفني طريقة تلقيه من قبل القارئ ، ويمكن للقارئ او المتلقي أن يستجيب للعمل بعدة أشكال مختلفة ، فقد يستهلكه أو ينقذه ، وقد يتعجب به أو يرفضه ، وقد يتمتع بشكله ويؤول مضمونه ويتبنى تأويلا مألوفا أو يحاول تقديم تأويل جديد ، ويشير التلقي الى النشاط الذي يقوم به المتلقي في مقابل العملية الإبداعية ، وهو أخيرا ذلك التحول في الاهتمام بالقارئ.
تختلف عملية التلقي حسب علاقة المتلقي بالنص أو بالعمل الفني ، ذوقه و تكوينه المعرفي ومدى اعتياده على الرموز الفنية ومعرفته المسبقة ، علما ان عملية التلقي تتم على المستوى الانفعالي والفكري والحسي  (المضمون ، والشكل الإجمالي ومستوى الأداء ) وهي التي تحدد مستوى المتعة وطبيعتها الى جانب العوامل الذاتية الأخرى مثل درجة التمثل مع الشخصية والإنكار بالنسبة لما يشاهده  أو يسمعه أو يقرأه ، كلها عوامل تتحكم في عملية و مستوى التلقي ، وكذا تفاعل القارئ مع النص .
وقد تعددت آراء المنظرين حول العلاقة بين المتلقي  والنص ، فهناك من يرى أن إحدى نتائج هذه العلاقة هو التأثير الذي يتركه النص على المتلقي ، والتأثير مفهوم طرحه الشكلانيون الروس ثم حلقة براغ في مرحلة لاحقة ، وأصبح فيما بعد جزءا من علم جمال التلقي . ركز الشكلانيون على عملية إنتاج المعنى الأدبي والفني بشكل عام .
 وبينوا أن هذه العملية تحدد نوع التأثير المفترض إحداثه عن التلقي على هذا الأساس طرح "فيكتور شلوفسكي schlovski victor" مفهوم تأثير الغرابة الذي يعني تقديم الشئ المألوف بطريقة غير مألوفة[33] .
ج) التفاعل :
يشير هذا المصطلح الى : "دور متبادل له طابع دينامي و الى علاقة بين متغيرين أو أكثر ، مع ملاحظة أن العلاقة تنطوي على تأثير متبادل بين الأطراف أو المتغيرات ، بمعنى أن قيمة كل متغير مؤثر على قيمة سائر المتغيرات الأخرى ، و نقول تفاعل الشخصان أو الشيئان " فأثر كل منهما على الآخر.
 والتفاعل هو تلك الاستجابة ( رد فعل ) التي يقوم بها الفرد نتيجة تأثره بمنبه ( فعل ) وقد تنشأ هذه العلاقة         (الفعل و رد الفعل ) بين فرد و فرد ، او بين فرد و مجموعة أفراد ، أو بين فرد ووسيلة.
ويستعمل التفاعل في هذه الدراسة للدلالة على استجابات المتلقي كردود أفعال على المثيرات التي يتعرض لها من جراء مشاهدته لبرامج التلفزيون باعتبارها منبهات ، وتظهر هذه الاستجابات من خلال الأقوال أو الأفعال أو الايماءات التي ترتسم على وجوههم و قد تكون هذه التفاعلات بين فرد مشاهد وفرد آخر أو بينه وبين مجموعة الافراد ، أو مع وسيلة إعلامية في خد ذاتها[34]
د ) عادات المشاهدة التلفزيونية :
نقصد بها الكيفية التي يشاهد بها الأفراد البرامج التلفزيونية والأوقات التي يقضونها أمام التلفزيون  والحجم الساعي الخاص بوقت التعرض و ردود الأفعال أثناء وبعد المشاهدة والتأويلات المختلفة والقنوات المختارة للمشاهدة والبرامج التي يتعرض لها الأفراد بالإضافة الى سلطة إتخاذ قرار المشاهدة ومن يمتلك المسؤولية أكثر في جهاز التحكم عن بعد في التلفزيون وهل يمارس الأولياء سلطة 
وتدرس الأثنولوجيا الثقافات الحيّة (المعاصرة) والتي يمكن التعرّف إليها بالعيش بين أهلها، كما تدرس الثقافات المنقرضة (البائدة) بواسطة مخلّفاتها الأثرية المكتوبة والوثائق المدوّنة. وتهتمّ إلى جانب ذلك، بدراسة ظاهرة التغيير الثقافي من خلال البحث في تاريخ الثقافات وتطوّرها .
وقد كان هذا الفرع من الأنثروبولوجيا الثقافية ، يلقى اهتماما قليلاً قياساً للفروع الأنثروبولوجية الأخرى ، حيث قام بعض علماء الأنثروبولوجيا في القرن العشـرين ، بدراسة الطـرائق التيعلى الأطفال ، وهل للذكور سلطة على الإناث في ما يخص المشاهدة.
أي أن الملتقي لدى تعرضه للمشاهدة التلفزيونية يعيد إنتاج خطاب المرسل الذي يؤثر مباشر على مواقفه وسلوكاته وبالتالي يحاول أن يحلل هذا الخطاب ، واتجاه بعض الباحثون إلى التركيز على نشاط المتلقي وبينوا اختلاف وتباين التأويلات لرسالة واحدة . فعملية التلقي هنا هي صيرورة يقيم فيها المشاهد ذهنيا بين استعداداته وتجربته ومعارفه بين دلالات ورموز المحتوي الذي يتلقاه وبالتالي تكون نتيجة التلقي هي المواجهة بين اقتراحات الرسالة واستعدادات المشاهد، هذه المواجهة عبارة عن حركة مستمرة للمقارنات بين الرسالة التي يدركها المشاهد وبين ما يصنفه في ثقافته تطلعاته ومراكز اهتمامه.معناه مطابقة أحكام الذوق على الرسالة فالتلقي هو عملية يتفاعل فيها المشاهد مع ما يتلقاه يؤدي هذا التفاعل إلى بروز حملة من المواقف والسلوكات التي تختلف باختلاف التأويلات والدلالات للرسالة[35]. .


ه) اتخاذ القـرار:
القرار هو عملية اختيار بين بدائل مختلفة بل نستطيع أن نقول " أنه البديل الأفضل الذي يتم اختياره من بين عدد من البدائل الممكنة التنفيذية ". فالقرار عملية ذهنية ( عقلية ) فكرية بالدرجة الأولى ، تتطلب قدرا كبيرا من التصور والمبادرة والإبداع والنطق ، إن أصل كلمة قرار يرجع الى اللغة اللاتينية  ومعناها القطع او الفصل " تغليب أحد الأمرين على الآخر ، وتعني أيضا :  البث النهائي و الإدارة المحددة لصانع القرار ، بشأن ما يجب وما لا يجب فعله للوصول لوضع معين والى نتيجة محددة ونهائية[36] . ويعرف القرار أيضا بأنه " واحد ضمن اثنين أو أكثر من البدائل المتاحة الذي يتم اختياره لمسار معين من العمل ، من قبل أشخاص ذوي سلطة ونفوذ "[37].
القرار هو إختيار بديل من بين مجموعة البدائل الممكنة للوصول إلى هدف محدد ، وتتناول عملية إتخاذ القرارات الإدارية قرارات اتخذت في إطار تنظيم وذلك بواسطة أفراد تقع عليهم مسؤولية إدارة هذا التنظيم [38].
أما يونغ " عرف القرار بأنه الإستجابة الفعالة التي توفر النتائج المرغوبة لحالة معينة أو لمجموعة حالات معينة محتملة في المنظمة". و هو عملية اتخاذ القرارات التي هي الاختيار القائم على أساس عدة معايير اقتصادية وسياسية واجتماعية ، لأن جميع القرارات تتخذ في ذهن القائم بالعملية ، ويتأثر اختيار البديل الأفضل الى حد كبير بواسطة المعايير المستخدمة[39].
يحدد برنارد "Bunard" مفهوم عملية اتخاذ القرار بأنها " عملية تقوم على الاختيار المدرك للغايات التي لا تكون في الغالب استجابات أوتوماتيكية أو رد فعل مباشر[40] .
من خلال هذه التعاريف يمكن اعتبار عملية اتخاذ القرارات بأنها عملية الاختيار لإمكانية على أساس بعض المعايير ، من بين عدة بدائل قصد تحقيق هدف معين . وبالتالي فوقوع القرار يتطلب وجود هدف وكذلك تعدد الامكانيات.
ت ) السلطة :
مفهوم السلطة يعد من أكثر المفاهيم السوسيولوجية استخداماً في إطار علم الاجتماع بصفة عامة ، وعلم الاجتماع السياسي بصفة خاصة ، فإن الدارسين والعلماء والمتخصصين ، رغم الاجتهادات الكبيرة في هذا المجال ، لم يتفقوا على تحديد هذا المفهوم اصطلاحاً ، بل أن الكثير من الآراء والاجتهادات تتباين مع بعضها البعض أحياناً ، وقد تتضارب أحياناً أخرى. 
فرغم الاهتمام الكبير والاستخدام الواسع لمفهوم السلطة في إطار الدراسات والأبحاث السوسيولوجية ، إلا أننا نلاحظ بوضوح التداخل في استخداماته ، وإحلاله بديلاً بعض الأحيان لمصطلحات ومفاهيم أخرى ، مثل الدولة ، والحكومة ، والقوة  والنفوذ  والسيطرة على سبيل المثال ، حيث نرى أن بعض العلماء استخدم مفهوم السلطة كمرادف  بل وبديل في بعض المرات  لمفهوم الدولة ، في حين أن الدولة كيان سياسي يمارس السلطة عن طريق استخدام القوة المشرّعة ، فالسلطة لا تتوقف على استخدام القوة فقط ، بل وعلى شرعيتها أيضاً ، فرغم أن السلطة تعني في طبيعتها وجود علاقة أمرية بين آمر ومأمور ، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن تفرض إرادة طرف على طرف آخر . طريقة من الطرق ، فمنذ المجتمع اليوناني القديم نجد إشارات واضحة في فكر " أرسطو " عندما تناول موضوع الدولة المدينة ، حين أشار إلى إن شرعية الدولة تقوم على السلطة ، وشرعية السلطة هي قيامها لمصلحة المسود ، ويرى أن سلطة السيد على العبد هي لمصلحة العبد ، مع أن مصلحة السيد ومصلحة العبد تتماثلان حينما تكون المشيئة الحقيقية للطبيعة هي التي تعيّن للسيد وللعبد المستوي الذي يشغله .كل منهما ، ويشير إلى أن سلطة الوالد على الأسرة غايتها مصلحة الخاضعين لها ، أو أنها مصلحة مشتركة
كما يرى" أرسطو" في السلطات العامة ، حينما تكون المساواة الكاملة للمواطنين هي القاعدة ، بأن لكل منهم الحق في مباشرة السلطة في دوره ، ومن الطبيعي أن يرى الجميع التناوب في مباشرة السلطة شرعياً ، ويقرّون لغيرهم حق الفصل بنفسه في مصالحهم مثلما سبق لهم الفصل في مصالحه ، لكنهم فيما يعد ، قد توحي إليهم المزايا التي تجلبها السلطة وإدارة المرافق العامة بالرغبة في أن يبقوا في السلطة دائماً بعد أن ذاقوا الاستمتاع بها ، فتصبح سلطتهم مستمدة من رغبتهم الخاصة
وقد يختلف مفهوم السلطة من مجتمع لآخر ، ومن تقاليد سياسية لأخرى ، وهو مركب من عناصر مادية ومعنوية ، وتبعاً لذلك فإننا نجد مجموعة من التعريفات للسلطة ، نذكر منها :
 تعريف  "والتر بكلي" هي التوجيه أو الرقابة على سلوك الآخرين لتحقيق غايات جمعية  معتمدة على نوع ما من أنواع الاتفاق والتفاهم ، وهكذا تتضمن السلطة الامتثال الطوعي الذي هو حالة سيكولوجية تعبر عن تنسيق أو تطابق في التوجه نحو الهدف لدى كل من الطرفين ، الممارس للسلطة والممتثل لها ، أي أن الرغبة في الوصول إلى الغايات والأهداف المجتمعية تجعل هناك نوع من التوافق في الوصول إلى المصلحة العامة العليا ، وهذا ما يجعل الجهة الآمرة ، أي التي بيدها السلطة ، تضمن امتثالا طوعياً ممن يشملهم الطرف الثاني  أي الجهة المأمورة  ويأتي ذلك من دوافع نفسية للجماعات الاجتماعية التي تسعى إلى ضمان مصالحها.
 _ أما " بيرود " فيعرّف السلطة ، بأنها قوة في خدمة فكرة ، إنها قوة يولدها الوعي الاجتماعي ، وتتجه تلك القوة نحو قيادة الجموع للبحث عن الصالح العام المشترك ، قادرة على أن تفرض على أعضاء الجماعة ما تأمر به ، ويرى أن السلطة ليست قوة خارجية توضع في خدمة الفكرة ، ولكنها قوة ذات الفكرة نفسها.
وهنا تكون السلطة مرادفة لمفهوم القوة ، إلا أنها ليست القوة القهرية ، بل القوة المقبولة اجتماعياً ، لأن استخدامها يأتي في إطار البحث عن المصلحة العامة التي تهم كل أفراد المجتمع ، لذا فإنها حق لبعض الأفراد لممارسة القوة وإصدار الأوامر والتعليمات.
ويعرّف الدكتور أحمد زكي بدوي السلطة بأنها القوة الطبيعية أو الحق الشرعي في التصرف وإصدار الأوامر في مجتمع معين  ويرتبط هذا الشكل من القوة بمركز اجتماعي ، يقبله أعضاء المجتمع بوصفه شرعياً ، ومن ثم يخضعون لتوجيهاته وأوامره وقراراته ، إلا أنه يشير إلى أن التركيز المفرط للسلطة أو عدم وجود رقابة شديدة على ممارستها ، يؤدي إلى إساءة استعمالها ، ويطلق على من يتصف بهذا الاتجاه أنه استبدادي ، أي أنه لا يستمد سلطته من إرادة الشعب ، بل يفرضها على الناس بالقوة[41].
ح) مفهوم السياق المنزلي:
تعتبر الاتجاهات الحديثة في المشاهدة التلفزيونية كنشاط يومي معقد يجري في السياق المنزلي ويمارس ضمن العائلة فالتلفزيون تستقبل سياق بالغ التعقيد والقوة ، غير أن طابع السياق للتلقي يطرح تساؤلات حول الكيفية التي تستعمل بها التلفزة في المنزل ، حول سلطة إتخاد القرارات المتعلقة باختيار القنوات التلفزيونية وبرامج التلفزيونية التي تشاهد الأسرة. إن مفهوم السياق المنزلي يسمح بالاهتمام أكثر بمختلف جوانب الظاهرة فالإطار الذي تستقبل فيه الرسائل الإعلامية مع حضور أفراد العائلة داخل الوسط الأسري يطرح التساؤلات حول الكيفية التي تتحقق بها عملية الاتصال في هذا السياق المنزلي ، وكيف يتم فيه إدماج التكنولوجيات المنزلية وتكيفها مع مستلزمات هذه البيئات.
حيث تسعى أبحاث التلقي الحديثة من الإجابة على هذه التساؤلات في تطوير نموذج للاتصالات المنزلية والأخذ بعين الاعتبار نشاطات الاتصال المتنوعة التي تتعايش في وضعية المشاهدة التلفزيونية مع الاستعمالات الأخرى للتكنولوجيات الاتصال والإعلام المنزلية مثل الكمبيوتر أقراص الفيديو DVD ، الراديو...الخ .
ويستبعد تحليل سياق المشاهدة التلفزيونية المفهوم العددي للجمهور ، حيث لم يعد مجرد حصيلة عددية لأفراد الأسرة الذين يتابعون البرامج والحصص ، وإنما أصبح ينظر إلى المتلقي كعضو دينامكي فعال ممارس لنشاط اتصالي في الحياة اليومية للأسرة كما ينبغي أن يركز تحليل السياق المنزلي على بحث الكيفية التي يتم بها إدماج التكنولوجيات حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من الدينامكية الداخلية وتنظيم الفضاء المنزلي[42].

:Domestique technologie  ث) مفهوم التكنولوجيات المنزلية
تتضمن مجموع المنتجات والتكنولوجيات التي تستعمل في سياق خلايا اجتماعية كوسائل اتصال جماعية وفردية ، والتي تشغل حيزا منزليا في السياق الأسرية مثل آلة تسجيل ، جهاز كمبيوتر والهاتف وأجهزة الاستقبال الإذاعي والتلفزيون والفيديو خاصة منها المرتبطة بشبكة الانترنت ، وقد احتكر التلفزيون منذ ثمانينات القرن الماضي استعمال هذا المفهوم تبعا للدراسات المكثفة حول الانعكاسات الاجتماعية لهذه التقنية الجديدة وأثارها على العلاقات الاجتماعية الأسرية وعلى السلوكيات الأفراد وخاصة على سلوكيات الأطفال وعلى التحصيل الدراسي ، ودور الآباء في توليف (جعلها أليفة) هذه التكنولوجيات وتطويرها لإشباع الاحتياجات والترفيه والتقنية والتعليمة لمختلف أفراد الأسرة ، وتعني التكنولوجيا الممارسات المتولدة عنها الدلالات التي تثيرها فالتكنولوجيات لا تتوفر فقط على قيمة مادية ، ولكنها تتضمن أيضا قيمة رمزية من خلال استعمالاتها ، الأمر الذي يعطي كل الأهمية لفهم الكيفية التي يتم بها إدماجها في الحياة العائلية ، وفهم الكيفية التي تؤثر بها الحياة العائلية اليومية في التكنولوجيات المنزلية. وبهذه الصيغة تصبح دلالات التلفزيون ، وبالتالي كل التكنولوجيات المنزلية تضم في نفس الوقت دلالات النصوص ودلالات التكنولوجيات وينبغي أن تفهم كخصائص مستحدثة لممارسات الجمهور[43].

 :family dynamism   خ) الدينامكية العائلية
أدخل هذا المنظور تعديلا هاما على مفهوم الجمهور الذي لم يعد مجرد فرد مشاهد لكنه عضو في الجماعة ( العائلة ) المشاهدة وجعل الأسرة مجالا نشيطا للممارسات الاجتماعية التي تتأثر في نفس الوقت بالمحيط الاجتماعي والثقافي وبالخصوصيات الموجودة داخل كل عائلة كالعادات والتقاليد والطقوس. فالدينامكية العائلية يقصد بها قدرة العائلات على التحكم في هذه التكنولوجيات وإدماجها كأدوات عادية وضرورية في الممارسة اليومية للأسرة وقدرتها على التأويل وإضفاء الرموز التي تحملها هذه التكنولوجيات ومضامين الرسائل التي تنقلها وفقا للخصوصية الثقافية والطقوس الأثينية والدينية ، كما تعني أيضا قدرة العائلات على إستعاب الرسائل الظاهرة والضمنية التي تحملها تكنولوجيات الإعلام والاتصال ، اذ تكمن دراسة الديناميكية العائلية من تحليل المشاهدة او الاتصال الفردي في إطار العلاقات العائلية من خلال التفاعلات التي تحدث داخلها ويسمح هذا السياق بتجديد العوامل الحاسمة في ممارسة المشاهدة من حيث السلطة والمسؤولية والرفاهية في مكان معين وفي أوقات معينة[44].

الفصل الثاني : الإطار النظري للدراسة

المبحث الأول : الأنثروبولوجيا و الأثنولوجيا و الإثنوغرافيا :
1) الأنثروبولوجيا ، أهدافها و تاريخها :
أ. تعريف الأنثروبولوجيا Enthropologyالأنثروبولوجيا هو ذلك العلم الذي يدرس البشر في ماضيهم وحاضرهم؛ لكي يفهم هذه الكيانات الهائلة والمعقدة من الثقافات عبر التاريخ ، وتُبنى الأنثروبولوجيا وتتحرك على القواعد المعرفية التي تقوم عليها العلوم الاجتماعية والبيولوجية، وكذلك عبر الإنسانيات ،  مثل: التاريخ والفن ، والفلسفة، وعلوم الفيزياء. الأثروبولوجيا مشتقة من كلمتين هما: أنثروبوس "anthropos" وتعني الإنسان ولوغوس  logos"  بمعنى "علم" وبهذا يكون معنى الأنثروبولوجيا هو دراسة الإنسان ، أو علم الإنسان ، يجمع الباحثون في علم"الأنثروبولوجيا" على أنه علم حديث العهد ، إذا ما قيس ببعض العلوم الأخرى ، كالفلسفة ، والطب، والفلك ، وغيرها ، إلا أن البحث في شؤون الإنسان والمجتمعات الإنسانية قديم قِدَم الإنسان منذ وعى ذاته ، وبدأ يسعى للتفاعل الإيجابي مع بيئته الطبيعية والاجتماعية،تعرف الأنثروبولوجيا بصورة مختصرة وشاملة بأنها "علم دراسة الإنسان طبيعيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا ، أي : إن الأنثروبولوجيا لا تدرس الإنسان ككائن وحيد بذاته، أو منعزل عن أبناء جنسه ، إنما تدرسه بوصفه كائنًا اجتماعيًّا بطبعه ، يحيا في مجتمع معين لـه ميزاته الخاصة في مكان وزمان معينين ، والأنثروبولوجيا بوصفها دراسة للإنسان في أبعاده المختلفة ، البيوفيزيائية والاجتماعية والثقافية، علم شامل يجمع بين ميادين ومجالات متباينة ومختلفة بعضها عن بعض؛ مثل: علم التشريح، وتاريخ تطور الجنس البشري، والجماعات العرقية، وعلوم دراسة النظم الاجتماعية من سياسية واقتصادية وقرابية ، ودينية وقانونية ، وما إليها.

       تعرف الأنثروبولوجيا إلى جانب التعريفات السابقة بعدة تعريفات ، أشهرها:
علم الإناسة ، أي علم الناس : العلم الذي يدرس الإنسان كمخلوق ، ينتمي إلى العالم الحيواني من جهة ، ومن جهة أخرى أنه الوحيد من الأنواع الحيوانية كلها ، الذي يصنع الثقافة ويبدعها ، والمخلوق الذي يتميز عنها جميعًا[1].  أثبتت ترجمة اسم هذا العلم إلى اللغة العربية عدم جدواها ، واتضح أنها غير علمية ، لأن الترجمة لا تقدم تسمية كاشفة دالة ، فكما أوضحنا هناك علوم أخرى كثيرة تدرس الإنسان ، كالتاريخ ، وعلم الاجتماع ، وعلم النفس ، والبيولوجيا الإنسانية ، وغيرها من العلوم ، ولهذا السبب العملي آثر علماء الأنثروبولوجيا العرب الإبقاء على تسمية العلم كما هو دون ترجمة.[2]
ب. أهداف دراسة الأنثروبولوجيا:
استنادًا إلى مفهوم الأنثروبولوجيا وطبيعتها ، فإن دراستها تحقق مجموعة من الأهداف ، يمكن حصرها في الأمور التالية:
- وصف مظاهر الحياة البشرية والحضارية وصفًا دقيقًا ، وذلك عن طريق معايشة الباحث المجموعة أو الجماعة المدروسة ، وتسجيل كل ما يقوم به أفرادها من سلوكيات في تعاملهم في الحياة اليومية.
- تصنيف مظاهر الحياة البشرية والحضارية بعد دراستها دراسة واقعية ، وذلك للوصول إلى أنماط إنسانية عامة ، في سياق الترتيب التطوري الحضاري العام للإنسان : ( بدائي - زراعي - صناعي - معرفي – تكنولوجي)
- تحديد أصول التغير الذي يحدث للإنسان، وأسباب هذا التغير وعملياته بدقة علمية، وذلك بالرجوع إلى التراث الإنساني وربطه بالحاضر من خلال المقارنة، وإيجاد عناصر التغيير المختلفة.
- استنتاج المؤشرات والتوقعات لاتجاه التغيير المحتمل، في الظواهر الإنسانية والحضارية التي تتم دراستها ، وتصور إمكانية التنبؤ بمستقبل الجماعة البشرية التي أجريت عليها الدراسة.
ج. تاريخ الانثروبولوجيا :
ركز علم الأنثروبولوجيا في بدايته منذ القرن التاسع عشر الميلادي على دراسة الإنسان وأسلافه الأوائل وأصوله منذ أقدم فترات التاريخ، وما قبل التاريخ وفي كل بقاع العالم، وذلك من خلال الحفريات والآثار ، ولهذا انصبت اهتماماته على دراسة المجتمعات البدائية ، ويرى بعض الأنثروبولوجيين أن ما يميز هذا العلم عن العلوم الأخرى، كعلم الاجتماع والاقتصاد، والسياسة والتاريخ، وعلم النفس والجغرافيا ، هو تركيزه على المجتمعات البشرية البدائية ، غير أن هذا الرأي لم يعد مقبولاً في الوقت الراهن ، حيث توسع مجال الدراسة وشمل المجتمعات غير البدائية ، كالقروية والبدو الرُّحَّل ، والمجتمعات المتمدينة ، كالمجتمع الأمريكي ، والروسي  والصيني...، وشمل كذلك دراسة عمليات الشرائح والاندماج بين الحضارات... إلخ ، ومن هنا رأى الأنثروبولوجيون أن الزمان والمكان لا يقيدان الموضوعات التي تدخل في نطاق علم الأنثروبولوجيا؛ إذ يدرس الإنسان وأجداده وأصوله منذ أقدم العصور ، وحتى الوقت الحاضر ، ويدرس الإنسان في كل مكان ، وهكذا لا يتقيد هذا العلم بحدود الزمان والمكان ، ولكنه يتقيد فقط بالإنسان كموضوع للدراسة[3].
درس الأنثروبولوجيون المجتمعات غير الأوروبية ، التي كانوا يطلقون عليها المجتمعات البدائية أو البربرية ، أي المجتمعات الصغيرة والمعزولة ، مثل: "المجتمع القبلي"، أو التي لا تعرف الكتابة ، كما سماها البعض في تلك الفترة والآن عن طريق مجموعة من الرحل والمستكشفين والعسكريين الذين كانوا يذهبون إلى هناك على شكل بعثات استكشافية لهذه المجتمعات ، الغاية منها توطين الاستعمار بها واستغلالها ، خصوصًا مجتمعات العالم الإسلامي ، مع التركيز على المشرق العربي ، كون هذه المنطقة هي مهد للديانات السماوية ، وتتوفر فيها ثروات مهمة كالنفط والغاز الطبيعي ، بالإضافة إلى أنها عرفت امتداد ثلاث إمبراطوريات كبرى ويرى الأنثروبولوجيون أن العامل الإيديولوجي لعب دورًا بارزًا في تركيز علماء الأنثروبولوجيا الأوائل على دراسة المجتمعات البدائية صغيرة الحجم ، حيث سعى بعضهم إلى وضع مقياس يقيس تطور المجتمعات ، بحيث تحتل المجتمعات الأوروبية قمته (مائة درجة مثلاً) ، وتشغل المجتمعات البدائية نقطة البداية فيه (الصفر مثلاً) ، وبين هذين القطبين (من الصفر إلى المائة) ، يمكن التعرف على المستوى أو الدرجة التي تشغلها هذه المجتمعات على مقياس التطور[4].
2 ) الإثنولوجيا و تاريخها :
أ. تعريف الإثنولوجيا Ethnology: تعدّ الاثنولوجيا فرعا من فروع الانثروبولوجيا يفسّر الظواهر التي يصفها علم الاثنوغرافيا ويدرسها دراسة نظريّة تسمح بتصنيفها وتعليلها، وذلك عبر المقارنة بين مختلف الثقافات والشعوب (اثنوس اليونانيّة تعني الشعب أو القوم) بحثا عن المشترك والمميّز في كلّ منها بغية إعادة تركيب التاريخ البشري بالوقوف على المتغيرات والثوابت الثقافيّة وصياغة تعميمات تتعلّق بالطبيعة البشريّة. ولهذا تسمّى الإثنولوجيا في أمريكا وبريطانيا مثلا أنثروبولوجيا ثقافيّة أو اجتماعيّة على ما بين الاصطلاحات من اختلاف[5]هذه الكلمة الغربية هي الإسم العلمي لعلم السلالات البشرية ، وهو العلم الذي يختص بدراسة الشعوب والأجناس المختلفة فيقوم بتصنيف الشعوب الموزعة على وجه الأرض إلى خمس مجموعات أساسية وهي : مجموعة البيض،مجموعة الصفر،مجموعة السود ، والبوشمان التي تعيش حاليًا في أنجولا ويبلغ تعدادها عشرة آلاف نسمة.أما المجموعة الخامسة فهي قبائل "الأبورجين" التي عاشت في أستراليا قبل وصول المستوطنين الأوروبيين[6]. وهي علم الأعراف ، الإثنيات والأقوام وتقوم بالدراسة العلمية والمنهجية للمجتمعات الإنسانية بكل تجلياتها اللغوية والأدبية (عادات, تقاليد, مأثورات) السياسة الدين والاقتصاد ، وكذلك في تاريخها الخاص.
ب. تاريخ الإثنولوجيا : تعتبر الأثنولوجيا من أقرب العلوم إلى طبيعة الأنثروبولوجيا، بالنظر إلى التداخل الكبير فيما بينهما من حيث دراسة الشعوب وتصنيفها على أساس خصائصها ، وميزاتها السلالية والثقافية والاقتصادية ، بما في ذلك من عادات ومعتقدات ، وأنواع المساكن والملابس ، والمثل السائدة لدى هذه الشعوب ولذلك ، تعدّ الأثنولوجيا فرعاً من الأنثروبولوجيا، يختصّ بالبحث والدراسة عن نشأة السلالات البشرية ، والأصول الأولى للإنسان. وترجع لفظة (أثنولوجيا) إلى الأصل اليوناني (أثنوس "Ethnos" وتعني دراسة الشعوب. ولذلك تدرس الأثنولوجيا ، خصائص الشعوب اللغوية و الثقافية والسلالية.
وتعتمد الأثنولوجيا في تفسير توزيع الشعوب _ في الماضي والحاضر _ على أنّه نتيجة لتحرّك هذه الشعوب واختلاطها ، وانتشار الثقافات التي ترجع إلى كثرة الحوادث المعقّدة ، التي بدأت مع ظهور الإنسان منذ مليون (ملايين) من السنين. فهي تبحث ، مسألة المصادر التاريخية للشعوب، من أين أتت قبائل الهنود الحمر؟ مثلاً ، وأي طريق سلكت؟ ومتى احتلّت هذه الشعوب المناطق الموجودة فيها الآن، وكيف؟ ومن أية جهة تسلّلت إلى أمريكا؟ وكيف انتشرت فيها؟ ومتى ظهرت أجناس الهنود الحمر؟ وما هي الميزات اللغوية والملامح الثقافية التي نشرتها ثقافة الهنود الحمر، قبل احتكاكها بالثقافة الأوروبية؟ وغير ذلك ممّا يفيد في الدراسات الوصفيّة المقارنة للمجتمعات الإنسانية وثقافاتها ، وتدخل في ذلك دراسة أصول الثقافات والمناطق الثقافية ، وهجرة الثقافات وانتشارها والخصائص النوعية لكلّ منها ، دراسة حياة المجتمعات في صورها المختلفة. أي أنّه العلم الذي يبحث في السلالات القديمة وأصولها وأنماط حياتها ، كما يبحث في الحياة الحديثة في المجتمعات الحاضرة ، وتأثّرها بتلك الأصول القديمة.
ولذلك ، تعرّف الأثنولوجيا بأنّها : دراسة الثقافة على أسس مقارنة وفي ضوء نظريات وقواعد ثابتة ، بقصد استنباط تعميمات عن أصول الثقافات وتطوّرها ، وأوجه الاختلاف فيما بينها ، وتحليل انتشارها تحليلاً تاريخياً  وتهتمّ النظرية الأثنولوجية بدراسة الثقافة، عن طريق القوانين المقارنة ، ولا سيّما مقارنة قوانين الشعوب البدائية ، حيث يهتمّ علماء القانون المقارن بدراسة بعض العادات والنظم والقيم والتقاليد، مثل : النسب الأبوي أو الأمومي ، سلطة الأب، الحياة الإباحية ، الاختلاط الجنسي ، وطرائق الزواج ويبحث علم الأثنولوجيا في طرائق حياة المجتمعات التي لا تزال موجودة في عصرنا الحاضر ، أو المجتمعات التي يعود تاريخ انقراضها إلى عهد قريب، وتتوافر لدينا عنه سجلاّت تكاد تكون كاملة. فلكلّ مجتمع طريقته الخاصة في الحياة وهي التي يطلق عليها العلماء الأنثروبولوجيون مصطلح " الثقافة ". ويعدّ مفهوم الثقافة من أهمّ الأدوات التي يتعامل معها الباحث الأثنولوجي ومن ميزات الأثنولوجيا، أنّها تعتمد عمليتي التحليل والمقارنة ، فتكون عملية التحليل في دراسة ثقافة واحدة ، بينما تكون عملية المقارنة في دراسة ثقافتين أو أكثر. تؤثّر من خلالها المفاهيـم الاجتماعية المحدودة في سلوك الأشخاص وأمزجتهم ، ومعرفة الحياة الإنسانية للشعوب التي ما زالت تحيا حياة بسيطة ، ولا سيّما تلك الشعوب التي تعيش في : أستراليا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا، وفي بعض المناطق في آسيا.
وكان علماء الأثنولوجيا ، وإلى عهد قريب جدّاً ، يقصرون أبحاثهم في الظواهر الاجتماعية والإنسانية للمجتمعات الثقافية. وكانوا يعتبرون الفرد كما لو أنّه مجرّد ناقل للثقافة، أو حلقة من سلسلة من الوحدات المتماثلة التي يمكن أن تستبدل الواحدة منها بأخرى. ولكن ، وبعد دراسات عديدة ، تبيّن لهؤلاء العلماء أن المعايير الشخصيّة ، تختلف باختلاف الأفراد والمجتمعات والثقافات. فمنذ البدايات الأولى لتطوّر الأبحاث الأثنولوجية ، والعلماء يحاولون اكتشاف الأسباب التي تجعل مجتمعات معيّنة، تطوّر محاور اهتمام خاصة بها ، وتتقبّل أو تنبذ تجديدات مختلفة من النوع الذي يبدو أنّه لا ينطوي على أيّة عوامل نفعية ، وكذلك الأسباب التي تجعل الثقافات المتنوّعة تعكس بصورة منتظمة  اتّجاهات مختلفة في تطوّرها. وساد الاعتقاد حيناً من الزمن أنّ هذه الظاهرات يمكن عزوها إلى وقائع تاريخيّة عارضة ، غير أنّ هذه النظرية هي ضرب من الافتراض الجدلي الذي لا يستند إلى أي برهان أو دليل ، ويتّفق معظم العلماء على أنّ مصطلح (أثنوجرافيا) يطلق على الدراسة التي تعمد إلى وصف ثقافة ما في مجتمع معيّن، بينما يطلق مصطلح (أثنولوجيا) على الدراسات التي تجمع بين الوصف والمقارنة. فالأثنولوجي يهدف من تلك المقارنات الوصول إلى قوانين عامة للعادات الإنسانية ،ولظاهرة التغيير الثقافي وآثار الاتصال بين الثقافات المختلفة ، كما يهدف الأثنولوجي أيضاً إلى تصنيف الثقافات ضمن مجموعات أو أشكال ، على أساس مقاييس (معايير) معيّنة.
وهذا يعني أنّ الأهداف النهائية للعالِم الأثنولوجي ، هي في الأساس ، مماثلة لأهداف عالِم الاجتماع وعالِم الاقتصاد .. فكلّ عالم من هؤلاء ، يحاول أن يفهم كيف تعمل المجتمعات والثقافات؟ وكيف ولماذا تتغيّر الثقافات؟ كما يحاول أن يتوصّل إلى تعميمات معيّنة ، أو " قوانين " بحسب المصطلح الدارج للمفهوم ، لتساعده في التنبّؤ باتّجاه سير الأحداث ، بقصد التحكّم به في النهاية.  فإذا كان القول بأنّ الأثنولوجيا تدرس الظواهر الثقافية دراسة رأسية ، أي دراسة مقارنة زمانية تاريخية لثقافات الماضي ، مع متابعة دراسة تلك الثقافات وتطوّرها ومقارنتها عبر التاريخ ، فإنّ الأثنوجرافيا تدرس الظواهر الثقافية دراسة أفقية محدّدة المكان ، وهكذا تكون الأثنولوجيا دراسة مقارنة في الزمان ، بينما تكون الأثنوجرافيا دراسة مقارنة في المكان. 
وكان من نتائج الاحتكاك بين علم الاجتماع وعلم الأثنولوجيا ، أن تزوّد علم الاجتماع بأساليب جديدة ثبت أنّها ذات قيمة خاصة للباحث الاجتماعي ، الذي يعنى بدراسة المجتمعات الحديثة الصغيرة. أضف إلى ذلك ، أنّ الاحتكاك بين العلمين وسّع مجال علم الاجتماع ، وأدّى بالتالي إلى تغيّر بعض صيغه النظرية.[7] 
  
المبحث الثاني: الإثنوغرافيا و دراسات الجمهور
1) الإثنوغرافيا و مناهجها :
أ. تعريف الإثنوغرافيا Ethnography: وهي الدراسة "الوصفية" لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد والعادات والقيم والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة أو مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة ، ويتحدد مفهوم الإثنوغرافيا أكاديميا بالوصف الدقيق والمترابط لثقافات الجماعات الإنسانية ، وهو بحث إجرائي الذي يستهدف الفهم والمشاركة في التغيير نحو الأفضل[8].الاثنوغرافيا تعني الدراسة الوصفية لطريقة وأسلوب الحياة لشعب من الشعوب أو مجتمع من المجتمعات واصطلاح الاثنوغرافيا في بريطانيا يعني البحوث الوصفية والتحليلية التي قام بها علماء الانثروبولوجيا البريطانيون حول الشعوب والأقوام البدائية التي درسوها دراسة ميدانية ، وبالرغم من أن الاثنوغرافي يهتم  بالدراسة الوصفية للمجتمعات البدائية والانثربولوجي الاجتماعي يهتم بالتحليل البنائي أو التركيبي للمجتمعات البدائية فان هناك ارتباط وتداخلاً وثيقاً بين هذين العلمين بخصوص الدراسات العلمية التي يقومان بها .
غير أنه في الولايات المتحدة الأمريكية  لاتوجد هناك علاقة وثيقة بين علم الاثنوغرافيا وعلم الانثروبولوجيا الاجتماعي بل توجد علاقة مرتبطة بين علم الاثنوغرافيا والاثنولوجيا . فالعالم هيرز كوفنتر يرى في كتابة       (الإنسان وأعماله) بان الاثنوغرافي هو وصف للحضارات وبحث مشاكل النظرية المتعلقة بتحليل العادات البشرية للمجتمعات الإنسانية المتباينة.
والاثنوغرافيا من أقدم فروع المعرفة في علم الأنثربولوجيا عندما قام الأوربيون بوصف القبائل والشعوب المحلية في أمركا وإفريقيا واستراليا واسيا  حيث وصفو أدواتهم وعاداتهم وتقاليدهم وكل مايتصل بثقافاتهم المادية المختلفة وسرعان متبني الانثروبولوجيون هذه المعلومات واستخدموها في دراساتهم لتطوير المجتمع البشري ، إما في علم الآثار  فقد استخدمت هذه المعلومات من المجتمعات البدائية والبسيطة والتقليدية لنماذج لمجتمعات ماقبل التاريخ والتاريخ القديم  وذلك عن طريق عقد المقارنات البسيطة وحتى أسماء ووظائف الأدوات التي توجد في المواقع الأثرية أخذت من ماهو معروف لدى الشعوب البسيطة التي درسها ووصفها الاثنوغرافيون ، وهكذا فإن استخدام الاثنوغرافيا في الآثار قديم قدم العلم نفسه[9].
ب. خطوات المنهج الإثنوغرافي:
_ الملاحظة :Observation
وهي أهم طرق البحث الإثنوغرافي تعني ملاحظة الباحث للمجتمع المدروس في التعرّف على صفات وخصائص ما يدرسه من خلال وصفه له وقد تكون الملاحظة بالمشاركة أو مباشرة أو غير مباشرة مستترة مكشوفة ، وذلك بواسطة معيشة الباحث الفعلية للملاحظة بالمشاركة لجميع وقائع السلوك ، لكون الملاحظة الأداة الرئيسية في جمع المعلومات وتصنيفها وتحليلها[10]. ويمكن أن تكون مباشرة أو غير مباشرة من أجل تقليل تأثير الملاحظ حول سلوك المستخدم ، والملاحظة مستعملة عادة في الدراسات الاثنوغرافية كتقنية أساسية من تقنيات البحث من أجل ملاحظة القواعد الثقافية الخاصة باستعمال كافة وسائل الاعلام بما فيها إذاعة ، تلفزيون وانترنيت لمعرفة كيف يتحدث الناس عن استعمالهم لها ومعرفة التفاعل الحاصل  بين الوسيلة إعلامية والمتلقي لمضامينها و محتوياتها أو الجمهور.
_ الصيرورة Processes: وتُدعى "العملية" وتكون العملية عادةً تلقائية غير مخططة فهي في استمرار وصيرورة والصيرورة شيء يحصل في كل مرة ، إن أهم صفة في العملية هي أنها تتكرر بشكل نمطي فلا تشذ عن هذا النمط.
_ الوصف Description : يعد الوصف من أهم خطوات البحث الإثنوغرافي الذي يمارسه الباحث الاجتماعي حيث يقوم الباحث بوصف ما يرى فقط وصفاً أميناً دقيقاً لما يحدث ، وان لا يزيد شيئاً من عنده.
_ التحليل Analysis: بعد جمع المعلومات تربط العمليات مع بعضها البعض بحيث نصل إلى العلاقات والصلات بينها ونصل إلى تحليل محتوى العلاقات ودرجة الانسجام والتناقض بينها للوصول إلى الآثار المسبّبة للظاهرة المدروسة.
2) خصائص البحث الاثنوغرافي:
يعتمد البحث الإثنوغرافي على مفهوم إشراك المستجوبين أو المبحوثين وتقدم وجهة نظرهم بصفة شمولية وفاعلية فليست مجريات البحث وأسئلته مشتقة من خلفية الباحث الثقافية والفكرية وإنما يتوقع منه أن يدخل إلى حقل الدراسة بعقلية ثقافية ومعرفية واسعة فيبحث وينقل ويصف ما يشاهده ويسمعه من خلال تسجيله للملاحظات والآراء والأفكار المقترحة من داخل ميدان الدراسة.
-       تتميز منهجية البحث الإثنوغرافي بالمرونة فلا توجد آلية موحدة لجمع المعلومات وتحليلها إلا أن النهج الإثنوغرافي يتيح لنا إطارا  منهجيا عاما يمكن الباحث من خلاله أن يبتكر ويضيف للمنهجية من خلال رؤيته الإبداعية ومن خلال قدرته على جمع اكبر قدر من المعلومات.
-       جمع المعلومات وتحليلها يختلف عن البحوث التقليدية فهي تمر عبر أربعة محاور تبدآ بجمع المعلومات ثم تنظيم المعلومات وتصنيفها ثم عرض المعلومات واختصارها وتقديمها على شكل مصفوفات وأفكار محورية  أما المرحلة الأخيرة تكون باستخلاص النتائج وعرضها والتأكد من تطابقها  (ميلز وهيبيرمان).
-        ليست الموضوعية المعيار الأساس في البحث الإثنوغرافي فهو لا يدعي الحيادية ذلك لأنه يمكن تقديم رؤى و مقترحات معرفية بشرط أن يشير إليها.
-       إمكانية تغيير خطة الدراسة وتصميمها وتغيير الأسئلة وفقا لما يراه الباحث.
-       لا يهدف إلى الوصول إلى نتائج يمكن تعميمها وإنما هدفه وصف وتحليل الظاهرة محل الدراسة.
-       لا بد على الباحث أن يقيم علاقة وطيدة مع المبحوثين ليأخذ منهم اكبر قدر من المعلومات وذلك من خلال استخدام أدوات اقل رسمية كالملاحظة بالمشاركة والمعايشة والاندماج في الجماعة المبحوثة.
-       يعتمد المنهج الإثنوغرافي على دراسة الظواهر(السلوكيات) في وضعها الطبيعي يحتاج الباحث إلي درجة من الحساسية تمكنه من الإحساس بالجو العام للتفاعلات داخل حقل الدراسة وهذا لجمع اكبر قدر من المعلومات.
-       يعتمد البحث الإثنوغرافي علي تقديم المحتوى التحليلي والوصفي اعتمادا على الوصف الكلي للظاهرة ويعتمد في ذلك على الكلمة والمعنى.
-        لا يتطلب الباحث التزود بالنظريات والفرضيات المسبقة بل يعتمد على أفكار الباحثين ورؤيتهم.
-       على الباحث الإثنوغرافي أن ينظر إلى السلوكيات والممارسات نظرة كلية شمولية ضمن إطار الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية وأن يعتمد لتحقيق ذلك على المقابلة  المعمقة و الملاحظة بالمشاركة و تحليل المجلدات ودراسة الآثار المادية والسير الذاتية[11].

: 3) كيفية تطبيق المنهج الاثنوغرافي في دراسات الجمهور
عندما نتحدث عن المنهج الاثنوغرافي فإننا نقصد مجمل المناهج التجريبية التي بواسطتها يقيم الإثنولوجي في حالة البحث الميداني  العلاقة ذات المردود العلمي الأكثر بينه وبين ميدانه. ويتضمن مفهوم البحث الميداني الاثنوغرافي فكرة البحث الميداني المباشر الذي يقوم به الإثنولوجي في سياق علاقة معايشة في الميدان ، فالبحث الاثنوغرافي إذا هو بحث اجتماعي يتميز بالانخراط العميق للباحث في حياة الناس لفترة من الزمن يراقب ما يحدث ويسمع ما يقال ، يسأل الأسئلة و يجمع ما يمكن من البيانات بهدف تسليط الضوء علي قضايا محورية في البحث.   
يتضمن المنهج الاثنوغرافي جمعا مكثفا للبيانات أي جمع البيانات عن العديد من المتغيرات على فترة زمنية معينة محددة وفي وضع طبيعي ويقصد بمصطلح الوضع الطبيعي أن متغيرات البحث يجري استقصاؤها في الموقع الذي تحدث فيه بشكل طبيعي وأثناء حدوثها وليس في بيئة وضعها الباحث في ظروف شديدة الضبط ، وعند القيام بدراسة  اثنوغرافية حول جمهور الانترنيت فإن الباحث يقع في حدود البحث الكيفي السوسيولوجي لمجرد الفهم وبث البحث الإجرائي ، كون الفهم و المشاركة في التغيير نحو الأفضل ، وبالتالي فإنه يختلف  في المنهجية والأهداف عن الأبحاث الكمية.
يقوم الباحث الاثنوغرافي عند دراسة جمهور الانترنيت أو جمهور الواب بمعايشتهم وهذا لفترة من الزمن ، وهذا بهدف توضيح أنماط وكيفيات استخدام الافـراد لشبكة الانترنيت  وتفسير سلـوكياتهم والمعـتقدات والاتجاهات والتمثلات الثقافية والإدراك والدوافع الخاصة بالأفراد وكذلك التأويلات والتفسيرات المختلفة التي يعطيها الافراد عند استخدامهم لها ، ولدراسة جمهور الانترنيت لابد أن يعتمد الباحث خطوات المنهج الاثنوغرافي التي سبق ذكرها[12].
إن استخدام المنهج الإثنوغرافي يساعدنا على فهم أي ظاهرة أو مشكلة لا نعرف عنها شيء أو لا تتوفر حولها معلومات كثيرة بحيث يصبح المنهج الإثنوغرافي مفيدا وفاعلا عند استخدامه للحصول على وجهات نظر وأراء مختلفة وملاحظات متنوعة أو للحصول على معلومات دقيقة ومعمقة من الصعب التعبير عنها بطريقة كمية أو بطريقة إحصائية ويؤدي إلى مستوى من التعمق ، لا يتحقق في الدراسات الكمية التي تحصر نطاقها في المظهر الخارجي للسلوك ولا يمكنها الكشف عن الأساليب الكامنة خلفه ، أو العوامل السياسية والإجتماعية والثقافية ... التي تكمن خلف هذا السلوك ، مما يجعل المنهج الإثنوغرافي الأنسب لدراسة السلوك الاتصالي والظواهر التي لا تتوافر على معلومات كافية أو تأسيس نظري ومنهجي[13].

الفصل الثالث: تلقي وتفاعل الأسرة مع البرامج التلفزيونية

المبحث الأول : التلقي و بناء المعنى من خلال مشاهدة للبرامج التلفزيونية
1) نشأة التلقي :
كل قراءة للنص الأدبي هي إعادة تأويل له في ضوء معطيات تاريخية أو آنية ، إذ يخضع في تشكيلته المتميزة إلى عملية تفاعل بين خصائص داخلية وخصائص خارجية هي تحولات السياق المنتج في ظلاله العمل الأدبي ،لذلك ظهرت عدة مناهج امتثلت لتلك المعطيات وحاولت مقاربة النص مقاربة موضوعية والكشف عن مكمن الجمالية وكيفية تشكيله،على أساس أن العملية الإبداعية هي عملية معقدة لم يوضع لها تفسير نهائي إلى حد اليوم،فمن المناهج السياقية التي نظرت للعمل الأدبي على أساس امتثاله للمعطيات التاريخية والثقافية المتعاقبة والآنية ، إلى المناهج النصية التي قاربت النص مقاربة داخلية في محاولة لاستخراج جمالياته من خلال عناصره الداخلية إقصاء لدور المبدع والسياق المنتج في ظلاله النص ، ظهر الاهتمام بالقارئ كعنصر فاعل في العملية الإبداعية ، إذ حاول النقاد القضاء على حيادية النص التي أفرزتها البنيوية والتي كادت أن تقضي على المعنى وتقصي جمالياته،بعد أن حولت قراءته إلى مجرد عملية آلية تخضع لعلاقات رياضية منطقية ، من هنا وبموازاة النظرية البنيوية كان حضور القارئ فاعلا عند العديد من النقاد ،على اعتبار أن القراءة هي إعادة إنتاج فاعل للنص وبمستويات مختلفة تنتهي به إلى الثراء والتنوع وليس إلى التحجر والجمود.
تأثرت نظرية التلقي في تشكلها بالفلسفة الظاهراتية بل أن معظم مفاهيمها استمدتها من أعلام هذه الفلسفة "كهوسرل" و"انجاردن "، وأبرز هذه المفاهيم ـ مفهوم التعالي ـ الذي يقصد به أن فهم الظاهرة خاضع للطاقة الذاتية أو الشعور الفردي الخالص،حيث ينبع من داخل الفرد المؤول ولا يخضع لمعطيات خارجية،فهي عملية ذاتية يتشكل من خلالها المعنى بعيدا عن أي اعتبارات أخرى . عدل "انجاردن" تلميذ "هوسرل" من مفهوم التعالي بتطبيقه على العمل الأدبي ،إذ رأى أن الأخير هو نتاج تفاعل بين بنية النص وفعل الفهم.أما مفهوم القصدية أو الشعور القصدي الآني فينصرف مفهومه إلى أن المعنى يتشكل من خلال الفهم الذاتي الفردي والشعور القصدي الآني إزاء هذا العمل ، من ثمة شكل الاهتمام بالذات الفاعلة مركز الدراسات الفينومينولوجية وعد المعنى خاضعا للفهم وناتجا له.
اْثر الفيلسوف جورج جادمير أيضا في أعلام نظرية التلقي من خلال إعادة الاعتبار للتاريخ في التأويل والفهم وإنتاج المعنى،حيث أن الفهم لديه هو"النظر في عمل العقل البشري أو إعادة اكتشاف الأنا في الانت فالعملية الأساسية التي بناء عليها تتوقف معرفتنا كلها للذوات هي إسقاط حياتنا الباطنية الخاصة بنا على موضوعات حولنا كي نشعر بانعكاس التجربة فينا"[1]، ومن ثمة ففهم المؤلف يتم من خلال فهمنا نحن،كما أن التاريخ له دوره الفاعل في إستراتيجية الفهم على اعتبار احتوائه على الخبرات والادراكات السابقة التي لا يستقيم الفهم إلا بها ، وهذا ما يسميه جادمير بالأفق التاريخي الذي تطور فيما بعد عند ياوس بما يسمى بأفق التوقع.
2) فعل التلقي:
بعد أن تعرضنا للجذور الفلسفية لنظرية التلقي سنحاول الحديث عن بعض منظري هذه النظرية بالتركيز على علمين : آيزر وياوس ، مع العلم أن هذه النظرية تبلورت على يد أعلام مدرسة "كونستانس" الذين اعترضوا على تصورات البنيويين للأدب من خلال إعادة الاعتبار لعملية الفهم في تكوين المعنى كما قلنا سابقا.
في نهاية الستينات قدم الناقد الألماني ياوس" مقترحات جديدة في فهم الأدب وتفسيره ، وذلك في محاضرته التي ألقاها عام 1967  بجامعة "كونستانس" تحت عنوان"لماذا تتم دراسة تاْريخ الأدب "حيث بين أن "الأدب ينبغي أن يدرس بوصفه عملية جدل بين الإنتاج والتلقي فالأدب والفن لا يصبح لهما تاريخ له خاصية السياق إلا عندما يتحقق تعاقب الأعمال لا من خلال الذات المنتجة بل من خلال الذات المستهلكة كذلك ،أي من خلال التفاعل بين المؤلف والجمهور[2]، ومن ثمة فأفق الانتظار حسب "ياوس" يتشكل من ثلاثة عوامل هي:تاريخ الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص كما في وعي القراء وموضوعات الأعمال السابقة وشكلها مع معرفة الفارق بين الواقع المعاش والعالم التخيلي أي التعارض بين اللغة العملية واللغة الشعرية،كما اعتبر "ياوس" أن خيبة الانتظار قد تحدث من خلال حصول تعارض بين المعايير السابقة للعمل الأدبي كما هو في وعي المتلقي ومعايير العمل الجديد التي قد تخرج عن المألوف ، ومن هنا"تتم عملية بناء المعنى وإنتاجه داخل مفهوم أفق الانتظار حيث يتفاعل تاريخ الأدب والخبرة الجمالية بفعل الفهم عند المتلقي ونتيجة لتراكم التأويلات(أبنية المعاني)عبر التاريخ نحصل على السلسلة التاريخية للتلقي التي تقيس تطورات النوع الأدبي وترسو خط التواصل التاريخي لقرائه ،وان لحظات (الخيبة) التي تتمثل في مفارقة أفق النص للمعايير السابقة التي يحملها أفق الانتظار لدى المتلقي هي لحظات تأسيس الأفق الجديد وان التطور في الفن الأدبي إنما يتم باستمرار باستبعاد ذلك الأفق وتأسيس الأفق الجديد[3].
يرى آيزر أن "القراءة هي عملية جدلية تبادلية مستمرة ذات اتجاهين:من القارئ إلى النص ومن النص إلى القارئ[4]، حيث أن النصكما يشير إلى ذلك "تودوروف"…هو نزهة يقوم فيها المؤلف بوضع الكلمات ليأتي القراء بالمعنى[5]،فالقراءة تتحول لديه إلى نشاط ذاتي ينتج عنه المعنى عن طريق الفهم والإدراك نومن هذا المطلق لا نستطيع الحصول على المعنى النهائي للنص ،إذ النص يحوي العديد من الفجوات على القارئ ملاها عن طريق بناء التفاعل بين بنى النص وبنى الإدراك والفهم عنده بعد إلغاء المرجعيات الخارجية والمعرفة السابقة التاريخية في محاولة لإعادة التوافق والانسجام للنص.
أما القارئ الضمني عند "آيزر" فليس له وجود حقيقي بل يخلقه النص ،ومن ثمة يتحول إلى"مفهوم إجرائي ينم عن تحول التلقي إلى بنية نصية نتيجة للعلاقة الحوارية بين النص والمتلقي ويعبر عن الاستجابات الفنية التي يتطلبها فعل التلقي في النص"[6]، هنا يعاد تشكيل المعنى عن طريق التأويل في كل قراءة بهدف سد الفجوات التي يكتشفها القارئ أثناء محاورة بنى النص ، فتتحول القراءة إلى عملية إبداع إذ كل قارئ يعدل في وجهة قارئ سابق له تاريخيا وهذا بالنظر إلى المستجدات الحاصلة.
يبقى أن نقول أخيرا أن العديد من النقاد اهتموا بالتنظير لفعل القراءة والقارئ فاثروا في تطور نظرية التلقي أمثال : "ميشال ريفاتير" و"نورمان هولاند" و"جونثان كوللر" و"ستانلي فيش" ، حيث تعاملوا مع النص على أساس انه مفتوح على العديد من التأويلات ، مما يجعل القراءة عملية خلق ثانية للنص تستند إلى الحوار وتعيد الاعتبار إلى قارئه بعد أن أهملته المناهج السابقة،ومن هنا تتحول الذات القارئة إلى ذات فاعلة تؤسس لأحقية الفهم والإدراك في نشأة النص الأدبي.
3) التأويلات وبناء المعاني :
أ. مفهوم التأويل و استعمالاته في الأدب :
من بين دلالات التأويل أن اللفظ  مأخوذ من " أول " وهو الرجوع ويقال آل إليه أولا ، أي رجع ويقال أول الكلام تأويلا إذ تدبره وقدره برده إلى أصله أي دلالته الحقيقية ، كما أن التأويل هو تعبير الرؤيا . لذلك أخذ التأويل في اصطلاح المفسرين معنى التفسير تارة وهو بيان المعنى في اللفظ وهو المعنى الذي استعمله الطبري . كما أخذ معنى صرف اللفظ عن معناه الظاهري إلى معناه الباطن ، باعتبار المعنى الأخير هو المقصود منه . أما عند الفقهاء الأصوليين فالتأويل يرادف التفسير لأن للفظ المجمل إذا لحقه البيان بدليل ظني سمي مؤولا ، وإذا لحقه البيان بدليل قطعي سمي مفسرا[7]. والمتأمل في قضايا الدراسات الفقهية ، يجد أن التأويل إنما ظهر في مواجهة التفسير اللفظي ، غير أن معظم المفسرين نظروا إلى التفسير بوصفه معادلا إجرائيا للتأويل ، ومن ثم اجتمعت مباحث تفسر القرآن على أن التفسير والتأويل واحد بحسب عرف الاستعمال من منظور أن التأويل كلمة ظهرت إلى جانب التفسير في بحوث القرآن عند جمع المفسرين واعتبروها متفقة بصورة جوهرية مع كلمة التفسير في المعنى ، وكأن الكلمتين معا تدلان على بيان معنى اللفظ والكشف عنه ،  قال صاحب القاموس: أول الكلام تأويلاً ، دبره وقدره وفسره ، على الرغم من اختلاف العلماء في تحديد مدى التطابق الكلي بين الكلمتين ، فإنهم يكادون يجمعون على أنهما يردان من قبيل إظهار المعنى الخفي الوارد في ظاهر الكلام [8]. وعلى ما يبدو فإن آراء الشراح والمفسرين تتضمن الدلالة الكلاسيكية لمفهوم الهرمينيوطيقا القائم على المعنى الحرفي
أما تجليات التأويل ، ومقاصده عند الفلاسفة وعلماء البلاغة والمتصوفة والمعتزلة ، فقد ذهبوا مذاهب شتى  في تأويل القرآن لا يمكن حصرها ، حتى اتسعت دلالاته وتشعبت معانيه بحسب السياقات ، والقرائن ، والحجج والبراهين ، وغيرها من الأدوات العقلية ، والبرهانية ، والذوقية.
أما إذا أخذنا معنى التأويل لغة : فهو إظهار المقصود عن طريق الظن ، والتأويل أيضا استجلاء الغموض في نص أوفي خطاب معين أو تحويل معناه من لغة لأخرى أو إضفاء معنى محدد عليه قصد إدراكه ،ويتضمن هذا التعريف تعددا في الدلالة النصية أو الخطابية يضفيها المؤول على النص مما يفسح المجال للتعدد والظن[9]
وإذا كان التحليل العلمي يفصل بين دلالتي التفسير والتأويل على اعتبار أن الكشف عن الحقائق ظني ، في التأويل بينما يعد قطعيا في التفسير ، فإن الأمر خلاف ذلك في مباحث القرآن لتطابق الدلالتين بحسب ما ورد لدى بعضهم في قوله  وفي هذا نجد كلمة التفسير_ في موارد استعمالاتها ـ تؤدي الغرض نفسه ، الذي تؤديه كلمة التأويل ، وذلك لاشتراكهما في تبيان حال ما خفي من باطن النص ، وبوصفهما أيضا  يتضمنان مقولة الاستدلال والاستنباط ، بغرض الوصول إلى التعيين الذي يحصل بالبراهين العقلية والقطعية ، نظرا لتماثلهما في البحث ، وتوحدهما في الماهية[10].
ارتبط مفهوم التأويل في بداية التأسيس بالتأويل الرمزي أو الباطني الذي كان يهتم بتفسير الكتب المقدسة ، وقد تطور هذا المفهوم ليشمل الثورة المنهجية التي رافقت تحول الوعي النقدي ، وتصبح بذلك الهرمينيوطيقا أساسا منهجيا ونظريا لكثير من القضايا الفكرية والأدبية . وقد شكل تحليل النصوص الأدبية ، وتفسيرها محورا جوهريا لامتحان خصوصية التأويل من حيث كونه إعادة بناء وتصور للمعنى وليس بوصفه بحثا عن معنى ، ومن ثم فإن دور المؤول لا ينحصر في مطابقة مقاصد المؤلف وإنما يكمن في البحث عما يجعل من نص ما أدبيا ، أي في الخصوصية الأسلوبية والفنية التي تمنح عملا أدبيا صفة الأدبية . ولأن مثل هذه الخصوصية لا تتحقق إلا بالقراءة والتأمل والظن والمكاشفة ، نظرا للحقل الذي تنتمي إليه حيث لا مجال للدقة العلمية بقدر ما هو مجال للدقة المنهجية . وقد تتحقق النظرية التأويلية في تحليل النصوص الأدبية وفقا لاتجاهات نقدية مختلفة منها ما يتصل بجمالية تلقي النصوص ، ومنها ما يتعلق بتعددية الدلالة ، انفتاح النصوص ، ولا نهائية التأويل.
وفي هذا الشأن يرى "غادامير" أن إعادة بناء الشروط الأصلية ومحاولة استعادة المعنى الأصلي هي محاولة فاشلة . فما نعيد بناءه ليس الحياة الأصلية ، والتأويل بمعنى استعادة المعنى الأصل هو مجرد نقل لمعنى ميت . وبذلك نجد أن النزعة العالمية للتأويل تجنح إلى أن تجعل من النقد علاقة توسط بين العلم وفعل القراءة وهي التجربة التي بادر بها فلاسفة النقد الألمان حين فصلوا بين الذاتي والموضوعي واعتبروا المنهج معيقا للحقيقة محاولين تمثل الرؤية الفلسفية اليونانية التي لا تروم حصول الحقيقة وإنما تقوم على التحاور الذي يودي إلى حقائق على اعتبار أن الفكر عند اليونان كان  ذا طابع ديالكتيكي ، طابع الحوار وفي الحوار يهتدي المشاركون بطبيعة الشيء الذي يفهمونه ، المعرفة إذن ليست قبضا وامتلاكا وحيازة ، المعرفة شيء يشارك في صنعه المتحاورون ، اليونان إذن لا يؤكدون ذواتهم ،  اليونان يسلمون عقولهم لما يريدون معرفته. هدا تقرب من الحقيقة لا تقرب من الذات.
وبفضل هذه الاستجابة للفكر الفلسفي اليوناني يرى "جادامر" أن المنهج لا يظهرنا على حقيقة جديدة ، إنما يوضح فحسب ـ الحقيقة السابقة المقررة ،كما يؤكد أن الحقيقة لا تنال بفضل منهج صارم متسلط إنما تنال من خلال الحوار.
إن هذه الميكانيزمات الجديدة هي التي طورت النزعة العالمية للتأويل وجعلت النقاد والفلاسفة يهتمون بتأويل الظواهر ، لا وفق مناهج مستقرة ، ومعدة سلفا ، وإنما عن طريق فتح أفق التساؤل والتحاور على اعتبار  أن الحوار هو أن نسمح للأشياء أن تظهر نفسها[11]. لكن كيف تتمظهر الأشياء ؟ وبأي منطق ، إذا اعتبرنا المناهج المقررة فاشلة ؟  حسب غادامير لا يمكن استنطاق الأشياء وإدراكها بأنماط المعقولية ومشاريع الفهم ، وانتظار المعنى التي نشكلها حول جوهر هذه الأشياء . لا إقصاء الذات والتصورات المسبقة ، ولا إعطاؤها الهيمنة المطلقة في تقويم الأشياء. هذه الوسطية هي وحدها القادرة كما يعـتقد "غادامير" على  جعل الحل للمسألة النقدية للهرمينيوطيقا أمرا ممكنا . بمعنى التمييز الذي ينبغي إقامته بين التصورات المسبقة غير الصحيحة التي توجه الفهم ، والتصورات المسبقة غير الصحيحة التي تكون سببا في عدم الفهم.
إن مبدأ الحوار الذي انطلق منه "جادامير" ، يبرر النتيجة التي تحققت وفقا لهذا المبدأ ، ذلك أن جادامير استطاع تكريس مبدأ المشاركة في تشكيل معنى مشترك (انصهار الآفاق ، وتداخل العوالم ، وتشابك التصورات) . وقد تحول هاجس الحوار إلى حركية فاعلة في تنمية الوعي وتحديد نمطه ، وتوسيع هذا النشاط ليصبح بذلك التـأويل نزعة عالمية على اعتبار أن  عالمية التجربة التأويلية تعني أساسا مجاوزة  "الأرغانون" (الآلة) المنهجي الصارم والذي لا يؤسس ، بأي شكل من الأشكال ، حقيقة العلوم الإنسانية والتاريخية بإقرار حقيقة متجذرة في التصور والممارسة والتواصل[12].
وبالقدر الذي يصر فيه "غادامير" على الحـوار إلا أن الدياليكتيك الذي يرمـي إليه  ليس جدل الأضداد ، إنه جدل بين أفق المفسر وأفق الثقافة المتحدرة التي تواجهنا وتخلق لحظة من السلب والتساؤل . وبعبارة أخرى ، فقد عثر "جادامير" على مستوى للتأويل تصبح فيه اللغة أبعد من مجرد عبارات وقوالب لفظية وعدها محركا جوهريا لما يمكن أن نعتبره عالمية التأويل  من منطلق أن  علاقة الإنسان بالعالم  هي أساسا عبارة عن لغة ، أي فهم ، بهذا المعنى يصبح التأويل عبارة عن البعد العالمي للفلسفة وليس فقط القاعدة المنهجية لما يمكن أن نسميه بالعلوم الإنسانية[13].
تعد كلمة هرمينيوطيقا ، والتي تعني فن التأويل محور جدل بدأ لاهوتيا مع تفسير النصوص المقدسة ، واستمر ابستيمولوجيا مع تعدد القراءات النقدية للظاهرة الإبداعية ، وفلسفيا لارتباطه الانطلوجي برؤيا الوجود وتفسير الكون من منطلقات جدلية ، وبرهانية ، ومعرفية ، والتأويل في لسان العرب : المرجع والمصير ، مأخوذ من آل يؤول إلى كذا أي صار إليه[14].ويتعلق التأويل بشكل عام بمشكلات الفهم والتفسير ، وارتباط كل ذلك بالفلولوجيا ، وإشكالية القراءة ، ونقد النصوص . أما" بول ريكور" فيتبنى   التعريف العلمي الآتي للهرمينيوطيقا ، إذ إنها نظرية عمليات الفهم في علاقتها بتأويل النصوص. ولهذا فإن الفكرة الأساسية الهرمينيوطيقا ستكون إدراك الخطاب بوصفه نصا . وهنا ستكون الطريقة سالكة أمام محاولة حل المشكلة الهرمينيوطيقية المركزية وهي التعارض الذي أراه يصل حد الكارثة بين التفسير والفهم . ولذا فإن أي بحث متكامل بين هذين المفهومين اللذين تميل الهرمينيوطيقا الرومانسية إلى تفكيكهما ، سوف يقود ابستيمولوجيا إلى إعادة توجيه الهرمينيوطيقا ، بما يتطلبه مفهوم النص نفسه[15]. ما بهمنا من تعريف "بول ريكور" هو إشارته إلى عمليات الفهم ، واستقلاليتها ، من حث كونها لا ترتكز إلى إرادة المؤول ، وحسب ، وإنما يدخل في صميم ذلك الكثير من العوامل والمحفزات والقدرات والكفاءات ، بخاصة وأن التأويل لم يعد ذلك المفهوم الساذج المتعلق بالمعنى الحرفي والمعنى الرمزي . لقد جرف المفهوم الجديد للهرمينيوطيقا الكثير من التصورات الراسخة بعيدا ليؤسس استنباطات مغايرة ناتجة عن نقد المعايير السابقة ، وقد كان "شليرماخر" من المبادرين إلى توسيع  دائرة الهرمينيوطيقا.[16]
بينما شاع في استعمال الفلاسفة المسلمين ، وبخاصة عند ابن رشد مصطلح التأويل وصارت له قوانين وتشدد في استعمالها والحاصل أن التأويل قد نشأ في ظل الدراسات الفقهية ، والفلسفية باستراتيجيات مختلفة ، ومتباعدة ، غير أن القاعدة الفكرية التي ينطلق منها ترجح العقل والاستدلال بغرض توسيع مجالات التفكير . لقد ازداد الوعي بأفق الهرمينيوطيقا بوصفه الأكثر اتساعا ومرونة ، وأصبح الحقل الذي تتقاطع فيه الفلسفة مع التاريخ والفن أو ما يسميه الفلاسفة الألمان بـ" علوم الروح". كما تبين أن الهرمينيوطيقا بوصفها فن التأويل قد خلصت النصوص الأدبية من التراكمات السحيقة للسيكولوجيات الساذجة وحلقت بها في فضاءات من الافتراضات والتساؤلات ليتحول النص إلى ظاهرة أو علامة يحتاج إلى قراءة وتفسير وتأويل ، ويشترك في هذه المسألة أو ما يسمى بعمليات الفهم مجموعة من القواعد والاستعدادات والكفاءات التي تتجاوز الخبرات اللغوية إلى مهارات غير لغوية تتضافر معها عوامل إنسانية ، وتشترك في حوار مع النص وإذا كانت الهرمينيوطيقا بوصفها " فن القراءة" أو " فن الفهم " تسعى لمحاولة فهم روح النص وليس مجرد إسقاطات تحوم حول النص . فما هي إذن استراتيجياتها ، وما مدى تطبيقاتها في النصوص الأدبية؟
ب.التأويل ونظرية التلقي:  
ألزمت شعرية الأثر المفتوح المؤول ، على مقاربة النص في ضوء تفاعلية نصية بين القارئ والنص إذ  إننا في القراءة نصب ذاتا على الأثر ، وأن الأثر يصب علينا ذواته كثيراً ، فيرتد إلينا كل شيء فيما يشبه الحدس والفهم[17]. ولكن هذه التفاعلية تفترض كفاءة تقبلية ، وخبرات قرائية تسمح للقارئ بأن يتجاوز تقلبات النص وانزياخاته ، ويكون قادرا في الآن ذاته على احتواء اتساع إشاراته ، وأبعاده الكنائية وليس من الضروري أن يكون هذا القارئ مزودا بكم من المصطلحات والإجراءات التحليلية ، بقدر ما يستوجب أن يتوفر فيه من الرؤية التأويلية ، والقدرة على اختراق الأثر بالحدس والتخييل فالإدراك وليس الخلق ، الاستقبال وليس الإنتاج تصبح عناصر منشئة للخطاب[18] . فتاريخ الأدب إذن هو تاريخ تلقيه ، مما يستلزم تدرجا في انتقال الخبرة الجمالية عبر التاريخ  وهنا ، فإن الأفق الأدبي ينشأ لأن العمل ذاته يجعله هدفا مدركا من قبل القارئ[19].
إن الجدل القائم بين التفسير والفهم يمكن أن يجد لنفسه مجالا خصبا في ضوء نظرية التلقي التي نشأت في ظل التلاحم بين التاريخ والجمالية ، واستطاعت  تحديد معنى الحرية المطلقة لمفهوم الكتابة إذا كان من الضروري أن نؤول ، فمن المهم أن نواجه السؤال التالي : كيف نؤول الفعل الأدبي ؟ وماذا ينتج عن تأويله؟يعد التأويل مشكلة في حد ذاته ، إنه يستدعي امتحان إمكانيته ومدى ملاءمتها ، ويتعلق الأمر بإثارة أسئلة ابستيمولوجية تقارب كل تحليل أدبي ، وكل مجال معرفي ، وتتخذ أحيانا شكل النقد الذي يحلل ، يصف ، ويحاكم النص . فما هو الفعل الأدبي  إذن؟ إنه يحتوي الأثر وكذلك ما يدور حوله : (السياق ، الجمهور ) ، وما يتقدم الأثر: (المؤلف) ، وما يلحقه : (التلقي ، التأثير ، الانتشار)[20].
إذا كان مفهوم الأثر يتخذ كل هذه الأبعاد الماقبلية والمابعدية باعتبار ولادته في أثناء الاستقبال ، وكذا من حيث كونه متصورا ذهنيا غائبا ينبغي استدعاؤه بتضافر مجموعة من العوامل الخارجية ( السياق ، الجمهور) ، وأخرى داخلية (المؤلف أو الذات المبدعة) ، فلا شك أن مقاربته لا تتخذ نفس المستوى الابستيمولوجي ، والقدرة الوصفية والتقييمية للأثر ، لا من حيث اختلاف القدرات والكفاءات النقدية والتأويلية وحسب ، ولكن أيضا من حيث اختلاف وتباين البنى النصية . وعليه فإن مفهوم المعنى والتأويل يعد مسألة في غاية التعقيد لا يمكن حلها في إطار ما يعرف بجدل الذاتية الموضوعية  من حيث كون  كل تأويل للرمز يظل بحد ذاته رمزا ، ولكنه معقلن قليلا ،أي مقرب من المفهوم قليلا ، وتعريف المعنى بكل ما لجوهره من عمق وتعقيد إنما ينطوي على إضافة عن طريق الخلق الإبداعي[21]، وبالعودة إلى الخلق الإبداعي ، نستطيع حصر التأويل في إطار الخبرة الجمالية والتاريخ كما رسختها جمالية التلقي ، وجعلت النص أو الأثر مدركا جماليا أو متصورا ذهنيا غائبا يعمل التأويل على استدعائه وفق طاقات تخييلية ، وقدرات تأملية معينة. وفي سياق مشابه يتساءل باختين  إلى أي حد في مقدورنا أن نكشف ونعقب على معنى (الصورة أو الرمز) ؟ ليس ذلك ممكنا إلا بوساطة معنى آخر (للرمز أو للصورة) ،مساو في الشكل والتبلور . إذ إن إذابته في مفاهيم أمر مستحيل. ما يمكن هو إما عقلنة المعنى نسبيا (تحليله تحليلا علميا عاديا) أو تعميقه بوساطة معان أخرى (تأويله تأويلا فلسفيا فنيا)أي تعميقه عبر توسيع سياق بعيد . إن تفسير البنى الرمزية مرغم على الخوض في لا نهائية المعاني الرمزية ، ولذلك فهو لا يستطيع أن يصبح علميا بمعنى علمية العلوم الدقيقة[22].
لا شك في أن قراءة الإبداع الأدبي تتطلب مهارة تخييلية تطابق أو تتجاوز مهارة المؤلف نفسه ، فمواجهة البنى الرمزية في تعددها ولا نهائيتها يحتاج إلى رؤيا تأويلية تكرس جملة من العوامل والمعايير ، وتتوسط القراءة والعلم  والتفسير والفهم ، والذوقي والعقلي ، وغيرها من أساليب التحليل سواء عن طريق المكاشفة والظن ، أو عن طريق عقلنة المعنى نسبيا ، أو غيرها من أساليب المحاورة ، وتشابك الفضاءات ، وتداخل العوالم .وقد تحملت جمالية التلقي في علاقتها بالهرمينيوطيقا جزءا كبيرا من هذه الممارسة النظرية التي تحمل القارئ مسؤولية إعادة بناء الأثر في أثناء  الاستقبال وعبر كافة مراحل التاريخ لاختبار الذوق ونقد الخبرة الجمالية.
ج. إنتاج المعاني:
يشكل معنى النصوص الثقافية أحد الانشغالات الأساسية للباحثين والنقاد ، وفي هذا المجال يرى " هابرماس يورغن " Habermas Jurgan[23] في كتابه " المعرفة والإهتمامات الإنسانية " أن مهمة العلوم الثقافية في فهم المعاني التي يعطيها الأفراد للأشياء والأحداث في ظروف وملابسات تاريخية معينة ومحددة ، انطلاقا من أن الثقافة هي منظومة من المعاني الذاتية التي يعتنقها الأفراد عن أنفسهم وعن العالم المحيط بهم . ذلك أن عملية فهم المعاني التي يلحقها الأفراد بالأشياء والأحداث ، تتطلب من الشخص الذي يقوم بالتحليل أن يعيد بناء المدركات الذاتية في مواقف محددة ويكتشف المعاني السائدة والمشتركة بين الأفراد في ذلك الموقف والتي يأخذها هؤلاء الأفراد كأمور مسلم بها[24] .
أمّا الصورة ، فإنّها لا تكون ذات دلالة إلاّ برمزيّتها. والرمزيّة في أبسط معانيها إنّما تتمثّل في الانتقال من معنى أوّل إلى معنى (كاستورياديس) وهي لا تفهم في مجال المتخيّل إلاّ بوصفها كيانا لا مرئيّا في المقام الأوّل يتّصل متن الاتّصال بما في الإنسان من رغبات ومطامح. ففي الصورة يسكن خطاب المتخيّل وبها تتغذّى "الأوهام الخلاّقة " وتتأثّر رؤيتنا للعالم.
وإذا التفتنا إلى المعنى ألفيناه محيلا على دلالتين تقيمان البرهان على ما ينطق به من تعدّد وتولّد إحداهما الدلالة اللغويّة والسيميائيّة الّتي تجد أشكالها التعبيريّة في الآداب والفنون وغيرها من الحقول ، والدلالة الأخرى وجوديّة أنطولوجيّة منفتحة على مسالك رحلة الإنسان في طلب المعنى الّذي به يؤسّس النظام في حياته وينخرط في دائرة الثقافة. وتنجم من ذلك كلّه أسئلة كُثر لا تنفع معها الإجابات الجاهزة والأحكام الباتّة من نحو: لِمَ يفكّر الإنسان ، في مسيرته التاريخيّة الطويلة ، بلغة الرموز ؟ ما العلاقة بين الرمز والصورة؟ هل الرمز ينتج الصورة أو الصورة تخلق الرمز ؟ كيف يُؤَسَّسُ المعنى في علاقته بالرمز أو بالصورة أو بهما معا؟ وهل نحن أحرار فعلا في أن نمنح الصورة ، باعتبار رمزيّتها ، ما نشاء من المعاني[25].
إن التركيز على القارئ في تاريخ الأدب تبلور بالأساس في أحضان مدرسة جمالية التلقي [26]، التي ردت الاعتبار للقارئ بعد أن سلم القراء لزمن طويل بملكية الكاتب المطلقة لمعنى نصوصه.وفي هذا الإطار بدأ التعامل مع النص باعتباره عملا مفتوحا يزداد معناه إشراقا كلما صادف قراءة ترفض التماهي والاستهلاك،علما أن معنى النص متعدد بالضرورة.وتعدده هو ضامن خلود وتجدد الأدب.وإذا كان معنى النص رهين هذه القراءة تحديدا، فهذا يعني أنها قراءة تنغرس في رحم السميائيات كعلم للمعنى والدلالة والرموز الأدبية. مع وجوب الإشارة إلى أن إشكالية المعنى طرحت على مدار تاريخ الإبداع والفكر أسئلة عدة منها على وجه التحديد : هل يتأسس المعنى على خلفية إشارات النص ؟ أم أن ثقافة المتلقي هي التي تلون دلالة النص بصبغة ذاتية؟ أم أن تفاعل البعدين السابقين هما سبب تشكله ؟وقبل هذا وذاك ، بماذا يتحدد معنى النص؟ هل لزمانه ومكانه دخل؟ وهل هناك نصوص خارج المعنى؟..أسئلة كثيرة تفضي بنا إلى أنه إذا كان المعنى أساس التواصل بين النص وقارئه فان تعدد معانيه تعزى لاختلاف أدوات القراءة والمرجعيات دون أن نغفل النظائر في الخطاب الأدبي ونقصد بها الأوجه البلاغية للغة كالمجاز والكناية والثورية وما شابه. إن المعنى بهذا المفهوم حصيلة تفاعلية يحكمها السياق والزمن والرؤية للعالم. أما ارتفاع هذه الشروط فتعني حصول اللاتواصل والالتباس .لهذا بات معنى النص هو إحدى احتمالات قصدية الكاتب فقط.ومادامت معاني النص متعددة بتعدد قرائه فيصعب ،إن لم يكن من باب الاستحالة القبض على المعنى الذي قصده الكاتب.فان تشييد معنى النص يتطلب من المتلقي استراتيجية تأويلية تمليها إشارات المتن ، وبالتالي يصير الضفر بالمعنى أشبه بالعثور على ذات القارئ عبر استدعاءات المعطل والمكسور فينه لحظة القراءة ،مادام زمن التلقي هو زمن ولادة المعنى.بهذا المعنى نتمثل مقولة أيزر: لا يصبح النص حقيقة إلا إذا قرئ [27].
د. الصورة و المعنى :
إن تعدد القراءات واختلاف المتلقين يجعل الصورة قابلة لقراءات متباينة. ولا يعني التعدد فوضوية القراءة وانفتاحها المستمر، لأن الصورة تستثمر مجموعة من المعارف التي تحصر هذا الكم الهائل من القراءات المفترضة وتحده. يفترض في الصورة احتمالها لإرسالية تحقق الانسجام الدلالي الذي تتوقف عليه القراءة ، لأننا إذا قلنا بالتعدد المعنوي ، وجدنا أنفسنا أمام فوضى معرفية تسهم في تعتيم المعنى وتشويشه.
 يكون المعنى في الصورة مبنيا.فالدلالة لا تكون محايثة لها ولكنها  تأتي إلينا  عبر ما راكمته التجربة الإنسانية من معرفة ، وفقها نحاول إدراك  عالم الصورة[28]. ويصبح  مبدأ التشابه  وسيلة نميز عبرها الشيء من بين زخم هائل من الأشياء التي تختزلها ذاكرتنا ، معتمدين خصائص عامة ، ترتبط بالشكل والحجم واللون ، وتلك عملية " لا تتعدى حدود تبين ما هو موجود خارج الذات لتصنيفه ضمن هذا القسم من الأشياء أو ذاك"، فعندما نرى الشيء نبحث في المعطيات الموصوفة عما يتطابق مع الخطاطة المجردة التي تمدنا بها ثقافتنا ، وحين يتم التطابق تبدأ عملية التعرف والتسمية والتصنيف[29]. يصبح  تحديد دلالة العلامة سواء كانت أيقونية أو أمارية أو رمزية رهينا بمعرفة سابقة تشتغل كسنن وفقه يتم إدراك هذه العلامات [30].
لا تكتفي الصورة في بناء عالمها بالمعطيات ذات البعد الأيقوني. بل توظف معطيات أخرى ترتبط بالعناصر التشكيلية، فالصورة ألوان وأشكال تحين عبرها المعطيات الأيقونية. فقد تكون الصورة عبارة عن بيوت وأشخاص وحيوانات،ولكنها أيضا ألوان ومواقع ، وأوضاع لهذه الأشياء الممثلة،تختلف معانيها باختلاف السياق الذي ترد فيه،إن لم نقل الثقافات التي تواضعت على إعطائها دلالات خاصة، والحضارات التي يتفاعل معها المجتمع سواء كانت متزامنة معه أم لا. وهذا ما نستطيع تبينه من خلال اختلاف  اشتغال الألوان حتى داخل المجتمع الواحد (الأبيض  لون الفرح والحزن في المغرب مثلا). بناء على ذلك ، لا يمكن التعامل مع المعطيات التشكيلية اعتبارا لوجودها المادي وإنما انطلاقا من الأبعاد والدلالات التي اكتسبتها في إطار ثقافة معينة.
   لا يكون المعنى في الصورة  محايثا للعناصر المكونة لها، سواء كانت ذات بعد أيقوني أو تشكيلي، إنها تحتاج إلى معارفنا القبلية من أجل تفكيكها، لكن عندما تصبح الصورة غير مستقلة يصبح المعنى مرتبطا بالسياق  ذلك أن النص لا يمكن أبدا أن يكون معزولا ، فهو يستمد معناه من العلاقات المباشرة مع نصوص أخرى وفي حالة الصور التي نشتغل بها ، يصبح الأمر متعلقا بالنصوص الموازية كالعنوان واسم الكاتب والرواية[31].  بل يصبح الرهان الكبير على هذه الأخيرة حتى لا تغدو القراءة مجرد تأويل شخصي ينزاح بالصورة عن إرساليتها الحقيقية. من هنا فإن أي تأويل لعناصر الصورة لا بد وأن يخضع لمحك النص ، لأن الاكتفاء بالاستعانة بالحمولات التي راكمتها التجربة الإنسانية والثقافة لمعطى معين سواء كان أيقونيًا أو تشكيليًا ، سيجعل الصورة قابلة لقراءات متعددة ، وحسب البيئات الثقافية أيضا ، فمعاني التلفزيون متوقفة على النشاط التفسيري الذي يقوم به المشاهد ويختلف طابع هذا التوقف حسب المستويات المختلفة التي يحدث فيها تفاعل ( النص ، المشاهد) الذي ينتج عنه علاقة تأثير وتفسير ، ولفهم هذه العلاقة عمل الدارسون على التمييز بين ثلاث مستويات مكونة للمعنى وهي [32]:
1. مستوى الفهم و الإدراك :
إن للإدراك صيرورة توظف معارفنا القبلية من أجل قراءة المثيرات التي تسجلها حواسنا ، وتأويلها [33]. يقوم الإدراك بذلك على قاعدة ربط أشكال العالم الخارجي بعالمنا الداخلي الذاتي. وتنطبق هذه الصيرورة على الممارسة الإنسانية برمتها عبر مختلف تحقيقاتها : سلوك  وأقوال وأفعال وغيرها من أشكال الوجود. فكل ما يصدر عن الإنسان يفترض معرفة مسبقة يتم وفقها الإدراك ، لأن "نظام الأشياء ليس معطى بطريقة مباشرة وعادية ، إنه بناء تقوم به الذات الفردية أو الجماعية على حد سواء [34].ويعني هذا أن دلالة الأشياء لا تتحقق خارج التجربة الإنسانية. ويصبح تحديد دلالة العلامة سواء كانت أيقونية أو رمزية أو أمارية رهينا بما نملكه من معرفة مسبقة تشتغل كسنن وفقه يتم  إدراك هذه العلامات[35]. إذا أخذنا بعين الاعتبار هذا الطرح النظري،فإن الصورة كعلامة أيقونية لا تستند في دلالتها على التشابه المفترض بينها وبين الموضوع الذي تمثله ، فالتشابه يكون نسبيا ، لأن الصورة لا تقدم جميع الوحدات الدلالية التي تحيل عليها التجربة الواقعية،مادامت العلامة الأيقونية بصفة عامة لا تمتلك خصائص النموذج الذي تمثله.فهي تكتفي بإعادة إنتاج بعض شروط الإدراك ، ولا تنتقي سوى المحفزات التي تتيح بناء بنية إدراكية تمتلك نفس دلالة التجربة الواقعية  التي تحيل عليها العلامة الأيقونية، ولا يتم ذلك بطبيعة الحال سوى انطلاقا من  سنن التجربة المحققة[36]. إن "العلامات البصرية رغم إحالتها على تشابه ظاهري  لا تقدم لنا تمثيلا محايدا لمعطى موضوعي مفصول عن التجربة الإنسانية ، فالوقائع البصرية في تنوعها وغناها تشكل "لغة مسننة"أودعها الاستعمال الإنساني قيما للدلالة والتواصل والتمثيل من هنا فإن التشابه المفترض في النسخة المحققة لا يرتبط بعلاقتها بالنموذج الذي تمثله،وإنما  بالتسنين الثقافي الخاص بالتجربة الإنسانية  إنه مرتبط بالسبيل المؤدي إلى إنتاج دلالات تعد في نهاية المطاف تأكيدا للحضور الإنساني في الكون ممثلا في إيداع الإنسان جزء ا من نفسه داخل الوقائع[37].يستقي هذا الطرح شرعيته من صيرورة المعنى عامة. فإذا كان المضمون اللساني معطى غير مباشر[38]، يصبح وجود المعنى بهذا رهينا باستثماره في وقائع مادية، وبالتالي تكتسب العلامات دلالاتها انطلاقا مما تكسبها التجربة الإنسانية من قيم. وفي هذا المستوى يحوّل المشاهدون ما يشاهدونه ويسمعونه على الشاشة الى إحساس وشعور أساسي بما يعرض أو بما يقال ، أو بما يحدث فعليا ، فالمشاهد يجد نفسه مجبرا على الربط ين مختلف اللقطات وفهم الإشارات الخاصة بالكاميرا .
2. المتضمن و المرتبط:
فوق المعاني الأولية المتعلقة بتتبع الكلمات والصور يوجد هناك المعنى المتضمن ( المضمر ، الكامن ) والمرتبط    (المرافق ، المتداعي ) الذي يتولّد في سياقات محددّة من الاستخدام ، فالمادة التلفزيونية تحمل ، وبدرجات متباينة معان ومدلولات   ( متضمنة و مرتبطة ) ، وهي توجد لى نحو أكثر في الإعلانات منها في الأخبار مثلا.     ويتم استخدام المعنى المتضمن والمرتبط بطريقة وظيفية وفعّالة من أجل تحقيق مجال أوسع من الأهداف الاتصالية  فاعتماد لقطة قريبة مثلا ، لقفل صدئ لبوابة مصنع تتضمن مدلولا أكثر من المعلومة السريعة الدالة وهي قفل يعلوه الصدئ ، فهي توحي الى أبعد من ذلك ، حيث أن تّأويل المعنى وتفسيره في هذه الحالة قد يوحي من جهة الى إهمال وهجر للمصنع ومن جهة أخرى قد يُؤول معنى هذه اللقطة بطريقة ثالثة مخالفة تماما [39].
3. الإستـجابة :
تمثل مستوى من التفسير ، الذي يبقى ضمن تفسير خاص وواعي للمشاهدين أي لما شاهدوه وسمعوه ، وهو يحقق معنى ودلالة داخل إطار ميولهم و معارفهم المستقرة والثابتة ، كما يمارس ، بالطبع ، ظغطا لتعديل وتغيير الميول والمعارف ، ومن الواضح أن الاستجابات إزاء البرامج التلفزيونية سوف تختلف وتتنوع الى حدّ بعيد باختلاف المعاني التوصل اليها من خلال عملية التأويل ، حيث تعتبر عملية الوصول الى استجابة إزاء مادة تلفزيونية ، عملية مستحيلة دون أن ينسب إليها أولا لهذه المادة التلفزيونية معنى ما .
إن مشاهدي التلفزيون مبدعون وفاعلون فهم لا يتقبلون المعاني النصية ببساطة ودون نقد ، بل يتعاملون معها من خلال قدراتهم ومهاراتهم الثقافية المكتسبة سابقا ، كما أنهم يعملون مع معان نصية مختلفة ومتعددة ، ذلك أن النصوص لا تجسّد مجموعة واحدة من المعاني الخالية من الغموض والإبهام [40]
ويوجد العديد من الدراسات في هذا المجال التي تنظر الى الجمهور على أنه منتج ( فهو ينتج معاني ) ، فاعل وواسع الإطّلاع ( لا يتلقى المادة التلفزيونية دون نقد ، وليس مجرد متلق سالب يتأثر بالنص ولكن :[41]
- المعاني مقيّدة بأسلوب بناء النص من جهة وبالسياق المنزلي الثقافي الذي تجري فيه عملية المشاهدة التلفزيونية من جهة ثانية .
- يلزم فهم المشاهدين في السّياقات التي يشاهدون فيها التلفزيون من حيث بناء المعنى وروتين الحياة اليومية .
- بإمكان الجمهور وبسهولة ، أن قوم بالتمييز بين الخيال والواقع والتّلاعب بالحدود بينما بفاعلية .
- عمليات بناء المعنى ومكان التّلفزيون في روتين الحياة اليومي تتفاوت من ثقافة لأخرى ، من حيث النوع والطبقة داخل المجتمع الثقافي الواحد .
أشار " ستيوارت هول "Hall Stuart" في مقاله ( التشفير وفك التشفير ) الى فكرة رئيسية تمكن من فهم التلقي كمرحلة لسيرورة انتاج المادة الإعلامية ، فالجمهور ليس حشدا وليس سلبيا ، ولكنه أحد الفاعلين المتدخلين في هذه السيرورة[42] .
فالرسالة أصبحت النموذج السابق تمثل تعبيرا لفظيا عن لحظات مترابطة اذ أنها متميزة تبدأ من خلال " إنتاج وبث " ليتم الانتقال عبر الوسائل الناقلة ليم بعد ذلك التوزيع الى أن تصل الى المتلقي ليستهلكها ، وكآخر حلقة هي " إعادة الإنتاج " وهكذا . ولكل منها ممارسات محددة خاصة بها وضرورية للدائرة ، ولكنها لا تضمن اللّحظة التّالية ، وعلى ذلك فبالرغم من أن المعنى مطمور في كل مستوى إلا أنه لا يمكن استهلاكه بالضرورة في اللحظة التالية من الدّورة، وبصفة خاصة لا يضمن انتاج المعنى استهلاك ذلك المعنى بالشكل الذي قصده المشفرون  لأن الرسائل التلفزيونية تحمل معاني متعددة ، وكلما كان المتلقي متقنا للشّفرة المستخدمة كانت كمية الأخبار أكبر[43].وبقدر ما يشترك المشاهدون مع المنتجين " المشفرين " في الأطر الثقافية ، بقدر ما يستطيع المشاهدون استيعاب الأفكار بطريقة واحدة ، أما في حالة حدوث تفاوت في الأوضاع والموارد الثقافية فإن استيعاب الأفكار يتم بطرق مختلفة ، وهذا لا يعني أن كل المعاني متساوية فيما بينها ، وان المهم الوصول الى أي معنى كان ، بل يتم بناء النص  على نحو يؤدي الى " معنى مفضّل "  وهو المعنى الذي يوجّهنا اليه النص والمفترض الوصول له .
د. المشاهدة و فعل المواثبة :
 تعرف المواثبة بأنها عملية الانتقال بين القنوات حيث بسمح الكم الهائل من القنوات التلفزيونية بالانتقال من قناة الى أخرى بغرض التنويع في الموضوعات وتفادي الملل في الكثير من الأحيان .
ويعد مصطلح "zapping" مصطلحًا أنجلوساكسونيًا ، يحمل طابعا أمريكيًا حديثًا ، لكنه يتداخل من عدّة مصطلحات مثل : flipping و zipping والتي تعكس ثقافة المجتمعات التي انتشرت فيها ، كما تمثل سلوك المشاهد اتجاه التلفزيون أو الفيديو أو الكاسيت فـ "الزيبينغ" هو عبارة عن القيام بتسريع شريط الفيديو ، الذي يتضمن برنامجا مسجلا ، بغرض تجنب الصفحات الإشهارية ، في حين يمثل مصطلح " الفليبينغ " فعل تغير القناة أثناء بث البرامج لا لغرض آخر سوى الرغبة في التغيير ، أما " الزابينغ " فيشير بالتحديد الى فعل تغيّر القناة أثناء بث البرنامج بهدف تحاشي الومضات الإشهارية[44]،  هذه المصطلحات هي تصور رغبة الفرد المتفرج في تغيير القنوات خلال البرنامج الذي يلبي حاجاته ورغباته .
ولقد اكتسبت هذه الظاهرة الحديثة قيمة رمزية لوصف التحولات الحالية لنشاطات المشاهدين داخل الفضاء المنزلي ، فالمشاهد أصبح بإمكانه أن ينتقل من مشاهدة قناة تلفزيونية الى أخرى وأن يختار البرنامج حسب ما يلبي حاجياته ورغباته وميولاته الخاصة وما يتّفق مع تقلب مزاجه ، كل هذا بسرعة فائقة ، وبمنتهى السهولة بمجرد الضغط على زر من أزرار جهاز التحكم عن بعد ، و بينت بعض الدراسات التي اهتمت بسلوك المشاهدين أمام التلفزيون أن ظاهرة المواثبة  ، التي برزت في بداية الثمانينيات باكتشاف جهاز التحكم عن بعد télécommande La  اكتسبت قيمة رمزية من أجل وصف أهم المتغيرات التي طرأت على نشاط المشاهد وهذا ما أدّى إحداث تغيير عميق في طريقة استعمال الشاشة الصغيرة ، حيث قدّم مؤخرا الباحثان : ciermer alin pierre وgourny de chantal انطباعاتهما حول هذه الظاهرة في شكل تحقيق بفرنسا ، معتبران أن المواثبة هو سلوك جديد تجاه التلفزة ناتج عن ثقافة جديدة [45].
ولقد كانت هذه الظاهرة المواثبة قد بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية حيث تم في سنة 1982 نشر تقرير أعدّه مركز دراسات المشاهدين "taa"[46] حيث كشف أنه حوالي 40% من المشاهدين الأمريكيين المشتركين المشتركين في التلفزيون الكابلي و15% من مشاهدي التلفزيون الهرتزي ، يغيرون البرنامج الذي يتابعونه لحظة بث اللقطات الإشهارية ، فأذهلت هذه النتائج الجميع خاصة أنها سلطت الضوء على ظاهرة كانت لحد ذلك الوقت مجهولة ، بيد أنه ظهرت هذه الدراسة أكثر من تواضعا بعد أن أشارت دراسة ( أ. نيلسون) التي كشفت أن 2.5% فقط من البرامج التي تدفع مشاهديها الى تغيير القناة تتوقف عن البث لعرض اللقطات الإشهارية ، و7.1% من العائلات المشتركة في التلفزيون الكابلي تفعل ذلك .
ويوضح الدكتور "نصر الدين العياضي" أن الاختلاف في نتائج الدارسين السابقين يرجع الى التباين في الطرق المستخدمة في سبر الآراء حيث استخدم مركز دراسات المشاهدين الهاتف ( المقابلة المباشرة ) التي لا تسجل حالة فعلية ، بل تسجل رأي شخص يريد التعبير عن موقفه الذي يعرض للتقويم والفحص من قبل الآخر ،  أما ( أ.نيلسون) ، فقد اعتمد على القياس الالكتروني الذي لم يقد سوى انعكاسًا ميكانيكيًا وتقريبيًا لنشاط المشاهد الذي قد يغادر المكان تاركاً التلفزة مشتغلة عوضا عن قيانه بتغيير القناة[47].
ان فعل المواثبة الذي يعتبر صورة للانتقائية التي يمارسها الجمهور من خلال ذهابه وإيابه اتجاه المضامين التي يتم بثها عن طريق الكم الهائل من القنوات لا تأتي من العدم ولكنها نتيجة لعدة أسباب يمكن تصنيفها الى ثلاث نقاط أهمها:
- سبب وجيه: يتمثل في ظهور أداة التحكم عن بعد ، في أواخر السّبعينيات بالولايات المتحدة الأمريكية ، والتي تعتبر كعصا سحرية لا يمكن الاستغناء عنها فالمشاهد أصبح عوضا عن الذهاب والإياب بين مكانه ومكان الشاشة ، أصبح بإمكانه الضغط على الزر العجيب من مقعده للتغيير .
- سبب محفز : يتمثل في رفض المشاهد لمختلف اللقطات الإشهارية في مختلف البرامج والحصص التلفزيونية الذي يعتبره المتفرج انقطاعا غير مناسب في البرامج ، فيجسد رفضه من خلال التغيير ، وقد بدأ الجميع يؤكدون تخوفهم من تهديد فعل المواثبة لفاعلية الإشهار .
- السبب المضخم : لقد سمح قدوم التلفزيون الكابلي بإمكانية الحصول على برامج من خلال الاشتراك تسمح للمشاهد بالتتبع دون أن يستشيره فيها أي انقطاع لبث اللقطات الإشهارية .
من خلال ملاحظة هذه الأسباب يمكن القول أن ظاهرة المواثبة تشكل خطرا حقيقا على البرنامج المشاهد : فقد ينتقل المتفرج إلى قناة أخرى كهروب من إشهار آني ولكننا لا نستطيع ضمان عودته الى القناة الأولى فقد يلتقط برنامجا آخرا يلفت يجذبه ويجعله يركن لمشاهدته ويقد يقع المشاهد في فخ ظاهرة اللعب على الأزرار "" التي تعني تغيير القنوات لمجرد التغيير واللعب بأزرار جهاز التحم عن بعد الا انها لا تشجع على الاتصال الفعال لأن المواثبة تعد ممارسة فردية فهي عوض أن تشجع على الاتصال تؤدي الى اقصاء مشاركة الآخرين في التجربة التلفزيونية والى انغلاق الفرد في عالمه .


المبحث الثاني : التفاعل الاجتماعي والأسرة :
1) التفاعل الاجتماعي
إذ يعد التفاعل بشكل عام نوعاً من المؤثرات والاستجابات ، وفي العلوم الاجتماعية يشير الى سلسلة من المؤثرات والاستجابات ينتج عنها تغيير في الإطراف الداخلة فيما كانت عليه عند البداية ، والتفاعل لا يؤثر في الإفراد فحسب بل يؤثر كذلك في القائمين على البرامج أنفسهم بحيث يؤدي ذلك الى تعديل طريقة عملهم مع تحسين سلوكهم تبعاً للاستجابات التي يستجيب لها الأفراد  ، وهو سلوك ظاهر لأنه يحوي التعبير اللفظي والحركات والإيماءات ، وهو سلوك باطن لأنه يتضمن العمليات العقلية الأساسية كالإدراك والتذكر والتفكير والتخيل والتفاعل يتضمن مجموعة توقعات من جانب كل من المشتركين فيه ، وكذلك يتضمن التفاعل إدراك الفرد الاجتماعي وسلوك الفرد في ضوء المعايير عن طريق اللغة والرموز والإشارات وتكون الثقافة للفرد والجماعة نمط التفاعل. ولا يقتصر التفاعل على ما يدور بين شخص وآخر ، بل قد يكون بين جماعة وأخرى ، كما بينت الدراسات ، انه اذا تولت عمل واحد جماعتان ، كلُ على حده ، ولكل أحداهما ترى الأخرى ، وتعلم بوجودها ، فأن ذلك يؤثر على الأداء والإنتاجية.
أ. تعريفه: من أهم صفات الكائن البشري وجود علاقات بينه وبين الآخرين ومن الأفضل تسميتها بالعلاقات البشرية بغض النظر عن كونها علاقات إيجابية أو سلبية وهي بالتالي تختلف عن مفهوم العلاقات الإنسانية والتي أصبح متعارف عليها بالعلاقات الإيجابية . ويتخذ التفاعل صور وأساليب متعددة فقد يحدث هذا التفاعل بطريق مباشر أو غير مباشر بين عدد محدود من الأفراد أو عدد كبير . ويكون عن طريق استخدام الإشارة واللغة والإيماء بين الأشخاص. ويأخذ التفاعل الاجتماعي أنماطاً مختلفة تتمثل في التعاون والتكيف والمنافسة والصراع . وحينما تستقر أنماط التفاعل وتأخذ أشكالا منتظمة فإنها تتحول إلى علاقات اجتماعية كعلاقات الأبوة والأخوة والزمالة. . . الخ.
وقد جرت العادة بين العلماء على التفرقة بين العلاقات المؤقتة والعلاقات الدائمة من حيث درجة الثبات والانتظام والاستقرار فيطلقون على الأولى منها اصطلاح العمليات الاجتماعية بينما يطلقون على الثانية اصطلاح العلاقات الاجتماعية وهذا يعني أن العملية الاجتماعية ما هي إلا علاقة اجتماعية في مرحلة التكوين فإذا ما استقرت وتبلورت وأخذت شكلاً محدد تحولت إلى علاقة اجتماعية وبذلك يكون الفرق بين العملية والعلاقة الاجتماعية مجرد فرق في الدرجة وليس في النوع ولقد أشارات الدراسات التحليلية للحياة الاجتماعية إلى أنها تبدأ بفعل اجتماعي يصدر عن شخص معين يعقبه رد فعل يصدر من شخص آخر ويطلق على التأثير المتبادل بين الشخصين أو بين الفعل ورد الفعل اصطلاح التفاعل . لذا لابد أن نفرق بين الفعل الاجتماعي وبين غيره من الأفعال الغير اجتماعية فالفعل الاجتماعي وفقاً لتعريف ماكس فيبر هو " السلوك الإنساني الذي يحمل معنى خاص يقصد إليه فاعله بعد أن يفكر في رد الفعل المتوقع من الأشخاص الذين يوجه إليهم سلوكه " هذا المعنى الذي يفكر فيه الفرد ويقصده هو الذي يجعل الفعل الذي يقوم به اجتماعيا . فالاصطدام الذي يحدث بدون قصد بين راكبي دراجتين هو ذاته فعل طبيعي وليس فعلاً اجتماعياً أما محاولة كل منهما تفادي الاصطدام بالآخر واللغة التي يستخدمانها بعد الحادثة هو عبارة عن فعل اجتماعي حقيقي . والتفاعل الاجتماعي يقوم على أساس مجموعة من المعايير التي تحكم هذا التفاعل من خلال وجود نظام معين من التوقعات الاجتماعية في إطار الأدوار والمراكز المقدرة داخل المجتمع والتفاعل الاجتماعي أيضاً يؤدي إلى تشكيل الجماعات الإنسانية وإلى ظهور المجتمعات الإنسانية[1].

ب. خصائص التفاعل 
- يعد التفاعل وسيلة اتصال وتفاهم بين أفراد المجموعة فمن غير المعقول أن يتبادل أفراد المجموعة الأفكار من غير ما يحدث تفاعل اجتماعي بين أعضائها.
. - ان لكل فعل رد فعل مما يؤدي إلى حدوث التفاعل الاجتماعي بين الأفراد
- عندما يقوم الفرد داخل المجموعة بسلوكيات وأداء معين فإنه يتوقع حدوث استجابة معينة من أفراد المجموعة إما إيجابية وإما سلبية.  
. التفاعل بين أفراد المجموعة يؤدي إلى ظهور القيادات وبروز القدرات والمهارات الفردية  
. - إن تفاعل الجماعة مع بعضها البعض يعطيها حجم أكبر من تفاعل الأعضاء وحدهم دون الجماعة 
. - أيضاً من خصائص ذلك التفاعل توتر العلاقات الاجتماعية بين الأفراد المتفاعلين مما يؤدي إلى تقارب القوى بين أفراد الجماعة 
ونظراً لأن التفاعل وسيلة اتصال بين الأفراد والجماعات فإنه بلا شك ينتج عنه مجموعة من التوقعات الاجتماعية المرتبطة بموقف معين. 
ج. أهمية التفاعل
يسهم التفاعل في تكوين سلوك الإنسان ، فمن خلاله ، يكتسب الوليد البشري خصائصه الإنسانية ، ويتعلم لغة قومه ، وثقافة جماعته ، وقيمها وعاداتها وتقاليدها ، من خلال عملية التطبيع الاجتماعي 
التفاعل ضروري لنمو الطفل ، فلقد بينت الدراسات أن الطفل الذي لا تتوفر له فرص كافية للتفاعل الاجتماعي يتأخر نموه،  يهيئ التفاعل الفرص للأشخاص ليتميز كلُمنهم بشخصيته – ذاتيته – فيظهر منهم المخططون ، المبدعون ،وكذا العدوانيون . . .كما يكتسب المرء القدرة على التعبير والمبادرة والمناقشة .  
يُعد التفاعل شرطا أساسيا لتكوين الجماعة ، اذ ترى نظرية التفاعل انها نسق من الاشخاص يتفاعل بعضهم مع بعض ، مما يجعلهم يرتبطون معا فى علاقات معينه ، ويكون كلٌ منهم على وعي بعضويته في الجماعه ، ومعرفة ببعض أعضائها ، ويكونون تصورا مشتركا لمجموعتهم، يؤدى التفاعل إلى تمايز شرائح الجماعة فتظهر القيادات وعكس ذلك ، يساعد التفاعل على تحديد الادوار الاجتماعية او المسؤوليات التي يجب أن يضطلع بها كل انسان ، ففي جماعات المناقشه فمثلا يؤدي التفاعل الى ابراز ادوار المشاركين وتعميقه[2].
د. التفاعل و سلوك الجمهور:
كما أشرنا أن التفاعل هو تلك الإستجابة التي يقوم بها الفرد نتيجة تأثره بمنبه وقد يكون هذا التفاعل بين فرد وفرد ، او بين فرد ومجموعة ، أو بين فرد ووسيلة وبتالي نحدد أربع عناصر تتداخل بشكل بارز في توضيح التفاعل الاجتماعي لجمهور وسائل الإعلام ، وهي :[3]
- اجتماعية سلوك الجمهور: يختلف سلوك أفراد الجمهور تبعا لطبيعة الرسالة أو الوسيلة على سبيل لمثال "ففريدسون" كان قد استخلص منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي،  أي بداية دخول التلفزيون فضاء الاتصال ، أن وسائل الإعلام أقحمت في جل نشاطات الحياة الاجتماعية حتى أصبح الناس ينظرون إلى أعمال فردية ، مثل الذهاب إلى السينما ، على أنها سلوك اجتماعي. فالتلفزة ، على سبيل المثال، التي تشاهد وسط العائلة تعرض رسائل إعلامية يتفاعل معها أفراد العائلة ، ويتفاعلون مع بعضهم البعض لما توفره لهم من موضوعات للحديث وتبادل الآراء والأحاسيس ، وربما تبني مواقف مشتركة بعض وسائل الإعلام ، مثل الكتاب ، يستدعي استعمالها العزلة عن المحيط الاجتماعي. وهي غالبا ما تفضل ذلك ، ولكن نادرا ما تعرقل تفاعل الإنسان المستعمل مع آخرين من قراء الكتب ، بل غالبا ما توفر موضوعا للنقاش المباشر أو غير المباشر خاصة بين القراء المشتركين . ولقد توصلت عدة دراسات نظرية وأبحاث أمبريقية إلى نتائج تدعم الأطروحة القائلة بأن استعمال وسائل الإعلام هو أداة فضلى لتحسين العلاقات الاجتماعية وفي نفس الوقت توفر للأفراد حرية أكثر في اختيار العزلة الوجدانية بهدف التعويض أو إيجاد البديل الوظيفي.
- الاستعمالات الاجتماعية
أصبح واضحا أن استعمال وسائل الإعلام والاتصال ، الجماهيرية منها خاصة ، هو عمل اجتماعي أكثر من أي شيء آخر. وقد أنجزت عدة دراسات حول مشاركة أفراد العائلة في استعمال وسائل الإعلام منزليا، وتوصلت إلى وضع إطار يتجلى من خلاله الطابع الاجتماعي لاستعمال وسائل الإعلام. وقد سمي هذا الإطار  نمطية الاستعمال الاجتماعي لما يفتقدونه في حياتهم الاجتماعية ، تتضمن الجوانب وتعني هذه الجوانب علاقات أفراد الأسرة ، كبنية توفر خلفية مشتركة لبناء علاقات وتنظيم نشاطات وتوفير مواضيع للحديث وتكوين رأي مشترك ، وأحيانا تبني موقفٍ مشتركٍ. كما أن الاستعمال الجماعي لوسائل الإعلام يدعم هذه العلاقات البنيوية ويوفر الفرصة لتبني الفكرة أو تجنبها حسب قناعة الفرد والجماعة ومدى قدرة هذا الاستعمال الجماعي على إشباع الحاجات الفردية والجماعية. وفيما يتعلق بالتعلم الاجتماعي ، ينصرف التفكير إلى التنشئة الاجتماعية وتعلم قواعد السلوك الاجتماعي الذي ينطلق من الأسرة ، إذ أن استعمال وسائل الإعلام في الفضاء الأسري يسهم إلى حد كبير في تدعيم الانسجام الاجتماعي ككل ، انطلاقا من العلاقات البنيوية الأسرية.
وبخصوص جانب الكفاءة والهيمنة من هذه النمطية ، يرى الباحثون أن استعمال وسائل الإعلام يعمل على توفير المعلومات الآنية التي تمكن بعض الأفراد بحكم تمايزهم من اكتساب كفاءات ومهارات جديدة يسمح استعمالها من التفوق على الآخرين وبالتالي الهيمنة عليهم وفقا لمبدأ الجدارة.
 
 
- العزلة الاجتماعية:
يتعلق الأمر هنا بخاصية استعمال وسائل الإعلام بمعزل عن الآخرين وبخاصة الاستعمال المفرط. وقد تم تفسير هذه المسألة من زاوية سيكولوجية على أنها شكل من أشكال العزلة الذاتية نتيجة الشعور بالحرمان أو الاستلاب وهي مظهر من مظاهر الهروبية والانصراف عن الواقع الضاغط خوفًا أو عجزًا عن مقاومة الضغوطات الاجتماعية التي يفرضها الواقع المثقل بالهموم المتعبة بالنسبة للمفرط في استعمال الوسيلة الإعلامية بغية الهروبية. وقد دعم دخول التلفزيون الفضاء الإعلامي كوسيلة منزلية وبخاصة جماعية الاستعمال ، هذه الظاهرة لواحد من هذه الأسباب أو لكلها. وتتجلى هذه الظاهرة بصفة خاصة لدى الأوساط المهمّشة اجتماعيًا مثل المرضى والعجزة والعاطلين عن العمل والفقراء والمتقاعدين وربات البيوت. وقد طرحت هنا مسألتان تبدوان متعارضتين : هل وسائل الإعلام تعمل في اتجاه مناقض للانسجام الاجتماعي وتحسين العلاقات الاجتماعية ؟ ، أم أن الظروف الاجتماعية المتدنية هي التي تدفع إلى استعمال وسائل الإعلام لتدعيم العزلة الاجتماعية ؟ في هذا الصدد ، أثبتت الدراسات الحديثة أن الاستعمال المكثف لوسائل الإعلام يعمل في اتجاه تحسين التواصل الاجتماعي وتطويره وأن الظروف الاجتماعية المتدنية هي التي تحرم الناس من استعمال وسائل الإعلام للتخفيف من حدة التوترات النفسية التي يتعرض لها هؤلاء المعوزون.
 - العلاقة بين الجمهور والمرسل:
إن الحديث عن التفاعل الاجتماعي عند الجمهور يحيل أولا إلى الاتصالات الشخصية بين الناس ، ولكن الأمر هنا يتعلق بنوع من العلاقات الاجتماعية بين الجمهور والمرسل. يرى جل الباحثين الغربيين أنه من الممكن النظر إلى العلاقة الممكن إقامتها أو المحافظة عليها بين المرسل والجمهور من خلال وسائل الإعلام ، من مستويين اثنين : عندما يحاول المرسل الاتصال بمستقبليه عن طريق رسالة إعلامية أو عند ما يحاول كل من المرسل والجمهور بلوغ نفس الأهداف عن طريق وسائل الإعلام . ويمكن أن ينظر إلى هذه العلاقة أيضا من خلال علاقات وهمية ، افتراضية ، عن بعدية ، يقيمها أفراد من الجمهور مع  شخصيات أو نجوم إعلامية أو فنية مسوّقة إعلاميا وقد سمي هذا النوع من العلاقات ب  شبه التفاعل الاجتمـاعي وعلى   الرغم من صعوبة  الدراسة العلمية لمثل هذه الظاهرة ، فإنها تزداد اتساعا حيث أصبحت ظاهرة مألوفة تماما من خلال الأوهام التي تخلقها لدى فئات من جمهور المسلسلات " الصابونية " والأفلام الخيالية وأفلام المغامرات بجميع أنواعها ونجوم الموسيقى وغناء الراي ، البوب ، الراب ، حيث يتحدث بعض الأفراد عن نوع من العلاقة مع النجوم بكيفية يصعب في أغلب الأحيان الفصل بين الخيال والواقع ، وخاصة مع انتشار شبكة الانترنت والإقبال على مواقع الدردشة ونوادي الحوار التي تخلق نوعا من العلاقة شبه واقعية، حيث أن التواصل يتم فعلا عن طريق الصوت والصورة والكتابة في الوقت الحقيقي الذي يعني أن يقوم جهاز "المودام" المتصل بالحاسوب وخط الهاتف الثابت بتحويل الحروف والصور والصوت إلى قيم رقمية تنقل بسرعة البرق إلى جهاز "الديمو" لدى المتلقي الذي يقوم بتحويلها إلى قيمها الأولية. ويمكن أن يطلق على هذا النوع من العلاقات"التفاعل الاجتماعي الافتراضي ، أو التفاعل الاجتماعي الإليكتروني و يؤدي إلى يسمى في علم النفس الاجتماعي "بالتماهي " ،حيث يصبح المتلقي يتماهى أو يشبه نفسه ببطله المفضل في السلوك والملبس و الهيئة إلخ.[4]..
2) العلاقات الأسرية في ظل تلقي البرامج الإعلامية:
أ. تعريف الأسرة:
تواجه العلماء صعوبات جمة في تعريف الأسرة الإنسانية نظرا لأنّها تخلط بين عناصر بيولوجية عامة يشترك فيها جميع البشر ويتعلق الأمر هنا بتنظيم النشاط الجنسي والتكاثر وحفظ النوع البشري. عناصر أخرى اجتماعية ثقافية يختلفون فيها عبر المكان وعبر الزمان وهي نظام الزواج ، حيث شكل التنظيم الاجتماعي للأسرة طبيعة العلاقات القائمة بين مختلف الشخصيات التي تشكل أدوارا اجتماعية داخلها، وماهية الوظائف الشخصية التي تؤديها الأسرة لأفرادها ، والوظائف المجتمعية التي تمارسها بوصفها مؤسسة اجتماعية.
الأسرة كما يلي : ولقد عرف "كينكزلي ديفز" أنّها جماعة من الأفراد تربطهم روابط دموية واجتماعية متماسكة.
أما" بيرجس"  و"لوك" فعرفاها على أنّها جماعة من الأشخاص يرتبطون بروابط الزواج والدم والتبني ، ويعيشون معيشة واحدة، ويتفاعلون كل مع الآخر في حدود أدوار الزوج والزوجة ، الأم والأخ والأخت ويشكلون ثقافة واحدة ومشتركة[5].
نجد أن هذا التعريف الأخير، يركز بشكل أساسي على ظاهرة التفاعل الاجتماعي داخل الأسرة ، ولقد وجهت له عدة انتقادات ، أهمها أنه لم يراع الفروق الجوهرية والاختلافات البينة بين المجتمعات البشرية ، في تنظيم الأسرة.
كما أن الروابط التي ذكرها ، روابط الزواج والدم والتبني ، قد تتطلب في بعض المجتمعات " خاصة تلك التي تجهل الدور البيولوجي للرجل في عملية الإنجاب " اعترافا وقبولا من المجتمع ، قد يصاحبه أداء بعض المراسيم والطقوس الرمزية.
ويعتبر هذا التعريف في نظر المختصين أحسن من التعريف الأول (تعريف كينكزلي) ، الذي تجاهل إمكانية انضمام بعض الأفراد إلى الأسرة عن طريق التبني ، وتمتعهم بحقوق كاملة ، دون وجود رابطة دموية في بعض المجتمعات ، مثل المجتمعات الأوروبية ،أما " ايميلو وليليامز" فعرف الأسرة قائلا : الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية التي تشمل رجلا أو عددا من الرجال ، يعيشون زواجًا مع امرأة أو عددا من النساء ، ومعهم الخَلَف الأحياء وأقارب آخرين وكذلك الخدم[6].
فهذا التعريف يفسح المجال واسعا أمام الباحث لحصر أنواع الزواج الممكنة : الزواج الجمعي ، نظام تعدد الأزواج نظام تعدد الزوجات ، وأخيرا الزواج الأحادي ، وأشكال التنظيم الأسري التي تتوافق مع أنماط الزواج المتعددة وتنهض عليها. فهو يركز بخاصة على أشكال التنظيم الأسري ، ويغفل الوظائف التي تقوم بها الأسرة ، وكذا صور التفاعل الاجتماعي التي تقع بين أفرادها ، أما "ميردوك" فيعرف الأسرة كما يلي  : هي جماعة اجتماعي تتميز بمكان إقامة مشترك ، وتعاون اقتصادي ووظيفة تكاثرية ، ويوجد بين اثنين من أعضائها على الأقل علاقة جنسية يعترف بها  المجتمع ، وتتكون الأسرة على الأقل من ذكر بالغ وأنثى بالغة ، وطفل سواء كان من نسلمها أو عن طريق التبني[7] . فهذا التعريف وإن ركز على الأهمية ا لاجتماعية لإحدى الوظائف الأساسية ، ألا و هي الوظيفة الجنسية التكاثرية ، فهو لم يذكر السمات الثقافية والاجتماعية الكامنة في الأسرة. وفي ضوء هذه التعاريف التي قدمها علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا للأسرة ، يمكن القول أنه يصعب على الباحث الاجتماعي وضع تعريف للأسرة ، يتفق عليه الجميع ، فكل تعريف يركز على بعض الجوانب التي تبدو أهم من غيرها في نشوء الأسرة واستمرارها ، سواء كانت التنظيم ، الوظائف ، التفاعل الاجتماعي...الخ.
ويمكننا القول أن الأسرة هي مؤسسة اجتماعية أساسية ، ونظام اجتماعي ذو انتشار عالمي ، يعتمد في وجوده على عناصر بيولوجية ضرورية ، وتتدخل الثقافة في توجيه وتعديل هذه العوامل بما يناسب طبيعة المجتمع وظروفه وتحولاته ، وإذا كان الاختلاف واضحا بين العلماء في تعريف ماهية الأسرة ، فإن هذا الاختلاف يظهر جليا كذلك بين العلوم الاجتماعية التي تشترك في دراسة الأسرة ، وعلى رأسها الأنثروبولوجيا ، علم الاجتماع (وبخاصة علم الاجتماع الأسري) والديموغرافيا (علم السكان) ، لأن هذه العلوم تتبنى كل منها زاوية تنظر منها إلى هذه الوحدة الاجتماعية[8].
فهي مجموعة من الأشخاص يرتبطون فيما بينهم بواسطة الزواج والنسب ، أي الوحدة القرابية ، وهنا يكون التعبير عنها غالبا بمصطلح القرابة وهذا هو الإطار العام الذي ترتكز عليه الأنثروبولوجيا في تعريف ودراسة الأسرة. وهي جماعة منزلية ، أي جماعة اجتماعية تكون وحدة بنائية داخل المجتمع ويضمن استمرارها الوظائف التي تؤديها للفرد والمجتمع وأشكال التفاعل الاجتماعي القائمة بين أفرادها الذين يشغلون أدوارا اجتماعية يحددها المجتمع ، وهنا يكون التعبير عنها بمصطلح الجماعة المنزلية مجال علم اجتماع الأسرة بامتياز ، أما الديموغرافيون (العلماء المختصين في علم الديموغرافيا أو دراسة السكان) فيتخذون من المشاركة في السكنى والاستقلال الاقتصادي المنزلي المحكان الأساسيان لتعريف الأسرة ، ويطلقون عليها الأسرة المعيشية ويقصدون بها أي وحدة اجتماعية مكونة من شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص تكفل لنفسها استقلالا اقتصاديا سواء انطوت هذه المجموعة على أطفال أو اقتصرت على عنصر الرجال فقط[9].
بتصنيف الأسرة :
فبعد مقارنته لأشكال تنظيم الأسرة ووظائفها في 250 مجتمع إنساني ، اهتدى"ميردوك" إلى تقسيم الأسرة إلى ثلاثة أصناف:
          : تتكون من الزوج والزوجة والأولاد.(Famille nucléaire) الأسرة النووية
تتألف من أسرتين نوويتين على الأقل .:(Famille étendue) الأسرة الممتدة   
 تتكون من أسرتين نوويتين أساسها الأب المشترك الذي تزوج من: (Famille polygame)  أسرة تعدد الزوجات
عدة نساء تربطهم علاقات اجتماعية وكونوا عائلات نووية مترابطة أو أكثر[10].
ج. الخصائص الاجتماعية للأسرة و أنواعها :
الأسرة وحدة اجتماعية انتاجية غير منقسمة : شكلت الأسرة في المجتمع التقليدي وحدة إنتاجية غير منقسمة ، فتماسك الأفراد داخل هذه البنية الاجتماعية نابع أساسا من رابطة الدم ، لكن يضمن وحدة العائلة وتلاحمها أيضا وحدة الملكية سواء كانت أرضا قطيعا أو وسائل عمل جماعي...الخ ، فالملكية العائلية هي ملكية خاصة ولكن لا يجوز بيعها أو تقسيمها فإذا حصل التقسيم وتم البيع غالبا ما يكون بين الأقارب أنفسهم ، يقول محمد الطيبي :" فأولوية القرار العائلي على القرار الفردي في مسالة التصرف بأراضي الملك ، جعل من هذه الأراضي إسمنت العائلة وأحد أسس ترابطها[11].
ونظرا للأهمية الوظيفة الاقتصادية التي تؤديها العائلة لأفرادها في  المجتمع التقليدي ، فإنّه كان لا يحدد مركز الشخص كفرد معزول ولكن ينظر إليه كعضو في أسرة محددة معينة إذ كان اسم الأسرة هو المهم والمؤشر وليس اسم الشخص الفرد  فاسم الأسرة يمثل بطاقة تعريف يجب المحافظة عليها وحمايتها[12].
.- أسرة أبوية: الجد أو الأب أو أحيانا الأخ الأكبر ، يعتبر رئيسا ومركز قوة ، وسلطته ذات طبيعة مطلقة ونهائية و انطلاقا من هذه المميزة التي يخولها له العرف و العادة يسهر على وحدة الملكية وعلى تماسك الجماعة العائلية وينوب عن أفرادها ويمثلهم في جميع المعاملات والعلاقات خارج الأسرة. هي كذلك أبوية من حيث النسب وأبوية من حيث السكنى أي أن إقامة الزوجين تخضع لقاعدة السكن مع والد الزوج.
- أسرة هرمية على أساس السن والجنس : يمكن كذلك أن نصف الأسرة الجزائرية التقليدية بأنّها طبقية ،  فيحتل الأب رأس الهرم ويكون تقسيم العمل والنفوذ والمكانة على أساس الجنس والعمر[13]. فتتركز السلطة في يد كبار السن وعلى رأسهم رب العائلة ، وهؤلاء الكبار (الشيوخ والكهول) يمارسون سلطتهم وتسلطهم على الصغار (الشباب والأطفال) ويتوقعون منهم الطاعة والامتثال للأوامر واجتناب النواهي. كما أنّ السلطة الأسرية تتركّز خاصة في يد الذكور. وهذا كلّه يترتّب عنه شكلا هرميا سلميا لتوزيع السلطة وعلاقات اجتماعية تراتبية وتقسيما للفضاء الاجتماعي :  فضاء عام مخصص للرجال وممنوعا على النساء وفضاء خاص داخل البيت يحرم على الرجال المكوث فيه طويلا في النهار.
 -أسرة تبيح تعدد الزوجات وتحبذ الزواج الداخلي : تعتبر الأسرة المتعددة الزوجات شكلا من أشكال الأسرة ، ويتكون من زوج واحد وأكثر من زوجة واحدة بالإضافة إلى الأطفال ولابد أن تكون تلك الزيجات شرعية ، أي تتم بموافقة المجتمع ولابد أيضا أن يكون للزوج أكثر من زوجة واحدة في نفس الوقت وليس في أوقات متعاقبة. وينتشر نظام تعدد الزوجات في كثير من المجتمعات الإنسانية ، منها تلك الواقعة ضمن المحيط الثقافي العربي الإسلامي أين تبدو آثار الدين الإسلامي واضحة في تنظيم المجتمع ، وتنظيم مؤسسة الأسرة ومؤسسة الزواج[14].
أما الظاهرة الأخرى التي يمكن أن نميز بها العائلة هي الزواج الداخلي ، يقول عبد الغني مغربي : والواقع أن الضّعالة ، أعني به الزواج بين أفراد الجماعة الأصلية ، يبدو ضروري في المجتمع المغربي ، فالضّعالة تعتبر ضرورة في الواقع لا مسالة موصى بها فقط فالأمر في هذه الحالة يتعلق بقرابة العصب الثنائية :  قرابة من جانب الأم وقرابة من جانب الأب الذي ليس هو سوى ابن العم الشقيق لزوجته [15]، فالزواج الداخلي يعكس ميل الجماعة   (العائلة ، العشيرة أو القبيلة) لتمتين الروابط بين أفرادها وإبقاء الإرث في حوزتها عكس الزواج الخارجي الذي يهدف الجماعة من ورائه إحراز مصالح اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية من جماعات أخرى خارجية.
د. التفاعل بين أفراد الأسرة :
يقصد بها تلك العلاقات التي تقوم بين أدوار الزوج والزوجة والأبناء ويقصد بها أيضاً طبيعة الاتصالات والتفاعلات التي تقع بين أعضاء الأسرة الذين يقيمون في منزل واحد ومن ذلك العلاقة التي تقع بين الزوج والزوجة وبين الأبناء أنفسهم . وتعتبر الأسرة الحضرية أسرة ممتدة وأبوية وتتميز بهيمنة الرجل على المرأة وكذلك الكبار على الصغار لذا يكون هنالك توزيع هرمي للسلطة وتكون السلطة في يد الرجل . وبالرغم من ذلك كله إلا أن الدولة عملت على إعادة إنتاج هذه العلاقات التي تخص التعليم والدين والتشريع ، ويلاحظ أن هناك تحولات أساسية بسبب التغيرات البنيوية في الأوساط الحضرية العربية من قيام الأسرة النووية وتحديد الاقتصاد والحرية والاستقلال من خلال هذا كله ندرك أن العلاقات الاجتماعية الأسرية تحتوي على ثلاث مجموعات من العلاقات[16].
فالترابط الأسري هو مرآة تعكس الطرق التي تتفاعل فيها النظم الأسرية الفرعية مع بعضها البعض. وعلى وجه التحديد ، يعرف الترابط الأسري على أنه الرباط العاطفي الذي يشد أفراد الأسرة نحو بعضهم البعض من جهة واستقلالية الفرد في النظام الأسري من جهة أخرى. وعليه فمن الممكن تصور الترابط بأنه مدرج متصل أحد طرفيه التداخل وطرفه الآخر الانفصال. في حالة التداخل الكبير تكون حدود كل نظام في الحياة الأسرية غير واضحة أو ضعيفة. والتفاعلات الأسرية التي يسودها التداخل الكبير غالبًا ما تتسم بالتدخل المبالغ فيه والحماية المفرطة ، وهذا الجو الأسري لا يسمح إلا بقليل من الخصوصية وكل القرارات والأنشطة ليست موجهةٌ نحو الأفراد ولكنها تتمركز حول الأسرة كلها. أما الحياة الأسرية التي تتصف بانفصال أفرادها عن بعضهم البعض فهي تتسم بحدود صارمة تفصل النظم الفرعية المكونة للنظام الأسري عن بعضها البعض ، ومثل هذه الحياة الأسرية قد تترك تأثيرات سلبيةً على أفرادها مثلها في ذلك مثل الحياة الأسرية المتصفة بالتداخل الكبير ، والتوازن بين طرفي الترابط (الانفصال والتداخل) هو من خصائص الأسر التي تقوم بوظائفها بشكل جيد. فالحدود بين النظم واضحة وأفراد الأسرة يشعرون بالارتباط العاطفي القوي من جهة وبالاستقلالية والخصوصية من جهة أخرى[17].


3) التلفزيون وسيلة الإتصال المنزلية :
قد اعتمدت معظم الدول الاوروبية فلسفة أن التلفزيون هو "خدمة عامة"  وأنه يقدم ما يحتاجه الناس وما يفيدهم ، إذ يحتل أهمية خاصة مقارنة بوسائل الاتصال الأخرى كونه يتميز بخصائص عالية . وتنوع البرامج التي يبثها عبر الكم الهائل من القنوات و طبيعة القضايا التي تناقشها والبرامج بما فيها التربوية أو التثقيفية أو الرياضية أو الترفيهية ...الخ.
لتجذب اليها مختلف الشرائح الإجتماعية ، فالتلفزيون يعتبر على الصعيدين المنزلي والوطني ، الخاص والعمومي ، عاملا فاعلا لثقافة الاستهلاك وفي الثقافة التقنية[18] .
أما عن وصف التلفزيون بالوسيلة المنزلية ، فهذا راجع لأسباب الاستقبال المنزلي : حيث أن التلفزيون نجده داخل المنازل ، ويتعرض اليه أفراد العائلة الواحدة داخل منزلهم. وداخل اطار نموذجي من العلاقات الاجتماعية والنشاطات والفعاليات المتزامنة وقد اصبحت المشاهدة التلفزيونية تمثل جزءا لا يتجزأ من الممارسات الاجتماعية للحياة اليومية لا سيما الممارسات المنزلية ، والتي تتم مع أشخاص غالبا ما تجمعهم علاقة القربة "أفراد الاسرة الواحدة" في أماكن مختلفة على حسب عادات وتقاليد وامكانيات كل أسرة مثال : غرفة الجلوس   غرفة النوم ، المطبخ ....الخ.
منذ الثمانينات بدأ الاهتمام بالاستعمالات الاسرية للتلفزيون ، وما تجسده دراسة "دافيد مورلي " سنة 1986  الذي تمحورت حول التلفزيون والعائلة ، حيث ثم الاعتراف بالمتلقي بدور فعال في بناء معاني الرسائل الاعلامية وبأهمية السياق الذي تتم فيه عملية التلقي ، حيث استبدل مفهوم فك الترميز بمفهوم سياق المشاهدة "Viewing" ، وتحول مركز الاهتمام الى عملية المشاهدة نفسها ومحاولة فهم هذا النشاط بحد ذاته اكثر مما هو مجرد استجابة خاصة لبرنامج اعلامي خاص.
ان الاتجاهات الحديثة تعتبر "المشاهدة التلفزيونية " كنشاط يومي معقد يجري في السياق المنزلي ويمارس أساساً ضمن العائلة فالتلفزة  تستقبل في سياق بالغ التعقيد والقوة . غير أن الطابع السياقي للتلقي يطرح تساؤلات مؤرقة حول الكيفية التي تستعمل بها التلفزة في المنزل وحول سلطة اتخاذ القرار المتعلقة باختيار القنوات التلفزيونية و البرامج التي تشاهد في هذا الوسط الاسري . في حين  يسمح مفهوم السياق المنزلي بالإلمام اكثر بمختلف جوانب الظاهرة ، فالمحيط أو الظاهرة الذي تستقبل فيه الرسائل الاعلامية ، خاص او في حضور أفراد العائلة الذين يفترض انهم مصقولون بمتطلبات هذا المحيط ذاته[19].

الفصل الرابع : خصوصية المجتمع التـارقي .

المبحث الأول : التعريف بالمجتمع التارقي ومكانة المرأة فيه
1) أصل تسمية التوارق :
التوارق اسم أطلق على الشعوب التي تقطن وسط صحراء إفريقيا الشمالية ، وقد حاول المؤرخون وضع مفهوم دقيق لهذا الاسم ، إلا أنهم وجدوا صعوبات نظرا لقلة ما كتب عن التوارق ، ونظرا لصعوبة تحديد أصلهم ، بدأ العلماء يتكهنون كلا حسب فهمه الخاص . فمنهم من قال أن كلمة التوارق محرفة من الكلمة العربية " توارك" أي أولئك الذين تركوا عبادة الله وأعرضوا عن دينهم.[1]
ومنهم من قال أنهم سموا بالتوارق ، نسبة الى طرقهم الصحراء وتوغلهم فيها ومنهم من يرى سبب التسمية ، هو انتسابهم الى " طارق بن زياد"[2] ، وهناك من  قال أن سبب تسميتهم بالطوارق نسبة إلى طروقهم الصحراء وتوغلهم فيها وغير ذلك من التكهنات والاقتراب بالتفسير من مصدر الاسم ومشتقاته أما الأستاذ محمد "عبد الرحمن عبد اللطيف" فيقول في تسميتهم بهذا الاسم : 
(... وكان التوارق يعرفون من بين هذه القبائل في العصور الوسطى باسم (اسجّلمَاسَن ) ولما انتشر الإسلام واللغة العربية ترجمت هذه الكلمة بمقابلها باللغة العربية ( الملثمون ) فأصبحت مصطلحا يطلق القبائل التي تسكن الصحراء الكبرى وذلك للزومهم عادة التلثم ووضع العمائم على رؤوسهم...) ويقول أيضا: (...وفي العصور الحديثة ظهر اسم الطوارق وسميت به القبائل التي تسكن منطقة (أزواغ) بجوار ممالك السونغاي والهوسا...) وقد ذكره كتاب التاريخ باللغة العربية في غرب افريقيا على هذا الشكل التوارك أو التوارق ولا يعرف أصل لهذه الكلمة ولا كيف بدأ استعمالها لتكون اسما يطلق على الملثمين من سكان الصحراء الكبرى ، فاسم الطوارق فلا يعرفه إلا المثقفون والمتعلمون ونادرا ما يعرفه الشخص الأمي من التوارق الذي لم يتصل بالثقافات العصرية والعالم الخارجي ، ويقول الأستاذ محمد أحمد الشفيع ، وهو من طوارق النيجر في عنوان فرعي في بحثه عن الطوارق "كيف يسمي هذا الشعب نفسه؟ " ، (...إن هذا الشعب يطلق على نفسه (كلتماجق) كما ينطقه الطوارق في النيجر أو (كلتماشق) كما ينطقونه في مالي أو (كلتماهق) كما ينطقونه في ليبيا والجزائر فالاختلاف هو نطق الحرف قبل الأخير من هذه الكلمة ، وإذا ما حللنا هذه الكلمة نجدها تتكون من جزئين كل : أي أهل او أصحاب " تماجق " : ومعناه اللغة التارقية وهذا يعني أن التوارق يعرفون أنفسهم بأنهم أهل أو أصحاب اللغة التارقية ومن المرجح أن سبب التسمية هو نسبتهم (لوادي الآجال) بليبيا وأن الطوارق هم سكان جنوب ليبيا في فترة من الزمن ، ولهذا سموا طوارق أي القاطنين بالوادي (تارقا) وهو الإسم الطارقي للوادي.[3]
2) نسب التوارق  ودينهم :
أ) نسبهم :
 من أهم الباحثين العرب الذين اهتموا بدراسة أجداد التوارق " إبن حوقل" الذي رحل الى النجير من 961 م الى 977 م ، و" إبن بطوطة" الذي قام بزيارة النيجر 1355م وأخيرا ابن خلدون من 1332 م الى 1406 م الذي إهتم بدراسة أصل التوارق و الصنهاجيين الذين ردهم الى أصول عربية ، نزحت من جنوب الجزيرة العربية وبهذا يؤكد ابن خلدون أن صنهاجة هم أجداد التوارق الذين أثروا الصحراء عن العمران ، وهكذا تتأكد حقيقتان أولهما أن صنهاجة الذين نزحوا من جنوب الجزيرة العربية هم أجداد الطوارق ، وكتامة وهما ليستا من قبائل البربر وإنما هما من شعوب اليمانية تركهما "افريقش بن صيفى" ، ويقول ابن خلدون عن صنهاجة التي ينتسب إليها الطوارق  "... ولا خلاف بين نسابة العرب أن شعوب البربر الذين قدمنا ذكرهم كلهم من البربر إلا صنهاجة وكتامة فإن بين نسابة العرب خلافا والمشهور أنهم من اليمنية وأن افريقش لما غزى افريقيا أنزلهم بها... ". وثانيهما أن أحدا لم يذكر شعب صنهاجة اليوم ، و إنما أصبح اسم التوارق هو الاسم المقرون بالصحراء[4] . هذا ويرى علماء الأنثربولوجيا في أهل شعوب الصحراء الكبرى موضوعا معقدا حيث أن شعوب هذه المنطقة تجمع بينهم سمات مختلفة و تتضمن الرواية الشفوية المتوارثة الكثير من المعلومات حول هذا الموضوع ، ولم يخل هذا النقل من بعض التحريف وهذا هو الحال بالنسبة لقبائل البربر التي تشكل أصل الشعب الأبيض في شمال افريقيا .
ويعود أصل التوارق الى" الجارمانت" وهم سكان ليبيا القدماء والذين يشبهون الطوارق من حيث التركيب الانثروبولوجي وهم أكثر المجتمعات شهرة وينتشرون في أواسط الصحراء في الأعشاب الواسعة في الساحل.[5]
من خلال ما سبق ذكره نجد أن أصل الطوارق ونسبهم قد تحدّث عنه أقدم المؤرخين العرب وقد وصفوهم بأهل اللثام ، ومازالوا الى يومنا هذا، وأصبحت تسميتهم الحديثة هي التوارق بدلا من الملثمين .
كما نجد التوارق يفتخرون بنسبهم فبعضهم تراه يحتفظ بشجرة نسبه في جيبه أو في صندوق متاعه ، كلما دار الحديث عن أنساب التوارق تراه واصلا نسبه برسول (الله صلى الله عليه وسلم) أو بأبي بكر الصديق أو بعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وبعضهم يرى أنهم من سلالة عقبة بن نافع أو بعض الفاتحين المسلمين لشمال افريقيا ، وهناك قبائل تنسب الى  جدها "محمد المختار" من المغرب وهو شريف عربي ينتمي إلى الحسن بن علي الذي وصل الى منطقة الصحراء  واستقر بها ايام البطش بالهاشميين وتزوج بتارقية وأصبح اولاد محمد المختار توارق  وهم الاشراف وايفوغاس. وإلى جانب هذه القبائل التي ذكرتها للدلالة لا للحصر فإن هناك عشرات القبائل الصغيرة الأخرى عربية الأصل واللسان التحمت حديثا بالتوارق وأصبحت منهم.
كما شهد مجتمع التوارق تغيرات مست النظام الاجتماعي كغيره من الأنظمة الأخرى فقد تحول من نظام طبقي تقليدي الى نظام يستمد مهامه الاجتماعية من السلطة ، لقد زالت مختلف الطبقات الاجتماعية التي اصبحت تشكل مجتمعا واحدا لا تظهر فيه فروق اجتماعية ألا عند فئات قليلة من المجتمع . وما زال صدى الاستعباد موجودا في تقاليد مجتمعات الجنوب حتى اليوم بما فيها التوارق والتي نبرز بعض منها:
ايكلان " Iklan ": وهؤلاء هم الذين أعطوا اسم "الحراطين" المعروف اليوم حيث اشتهروا بممارسة الزراعة ، فكان من يمارس الزراعة منهم في الوديان وفي الواحات يدعى بالحراطاني ، و هي كلمة  محرفة عن "حر ثاني" أو "حر طاري" أي الحر الثاني ، أما الحر الأول فهم الأحرار من عرب وتوارق ، وتستخدم كلمة ايكلان في لغة التوارق للدلالة على الأرقاء السابقين ،  وكذلك حراطين أَو عبيد أحفادِ سابقينِ مِنْ الأسرى ، اوالأسودِ ، لأن العبيد في الغالب سود الذين مروا بعمليات تهجين مختلفة مع البيض القادمين من الشمال ، والسود القادمين من الجنوب المعروف ببيلا في مالي وفي النيجر ، مِنْ الأصلِ أَو المختلطِ ، اليوم يُشكّلونَ جزء كبير مِنْ مجتمعِ التوارقَ   وقد انتشر هؤلاء الحراطين في المناطق الصالحة للزراعة في افريقيا وجنوب الجزائر وبنوا عددا من السواقي العجيبة تشبه السواقي التي كان الحراطين يبنونها في في تلك الفترة [6]. والمثير هو استمرار ظاهرة العبيد ، التي ما نزال نسمع بها في المنطقة ، إلى أن الرئيس الراحل هواري بومدين حاول القضاء على الظاهرة في السبعينيات من خلال منع سوق الرقيق أو العبيد بالمنطقة ، إلا أن ممارستها ظلت متواصلة إلى يومنا هذا ، لكن عن طريق التوريث أبا عن جد دون البيع ، لكن العديد من نبلاء التوارق مازالوا على هذا المنوال سرا[7].
قبيلة افوغاس "Ifoughas": اصلهم قبيلة سيدى المختار وهو شريف حسنى يعود للأدارسة الذين أسسوا دولة ألا دارسه فى المغرب سنة 172 هجري على يد مؤسسها إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن على بن آبى طالب وفاطمة بنت "رسول الله صلى الله عليه وسلم" ، وهم مؤسسوا مدينة فاس في المغرب وهي قبيلة عربية شريفة تنحدر من إدريس الأول ، وكانت من قبائل مدينة السوق التي ورثت مدينة تادمكت بعد اندثارها ، وقد انحدر منها العلماء والصالحون ، وإليها ينتمي العام والمربي الشهير سيدي عالي بن النجيب الشيخ سيدي المختار الكنتي. وبالإضافة إلى هذا الدور فهي قوية الشكيمة مهابة الجانب ، تستوطن بشكل رئيسي في جبال آدرار (آدغاغ) وتيمترين على الحدود مع الجزائر، التي لها امتدادات بها وكذلك النيجر. ويتوزع إفوغاس من الأفخاذ التالية: كل تينبوكورت، كل أباغ، تل كاتن، إيريَكين البيض ويشتعينين، إيريَكين الكحل ويلينين، إيبهاون، إيمزكرن (أهل الذكر) إفرقومس، إيقلاد، إيمدّدغن (يسكنون النهر مع إمغاد) تاراقازا، كل تلميط، كل تشادّين (أهل النخل في تسليت) إبراهيم الدغوغي  ، الأنصار، والبعض من إفوغاس يسكن النيجر وهم كل تَدَينْ، كل تغليت، يقضاض (الطيور) ومن القبائل المنضوية تحتهم: إكدلن (كداله) أهل السوق (بعض من كل السوق) إيدنان، كل تغليت، إركناتن، الكناته (من كنته) إيضبيلالن، يغوزاون، إمغاد وهم أتباع من قبائل شتى، كل أغلال، إيبوعلليتن، إينهاضن (حدادون) وولاؤهم لكل القبائل.
قبيلة كيلنصر "anser Kel": ويعود نسبهم إلى أنصار الرسول صلى الله عليه وسلم لكن استقرارهم في وسط الطوارق جعلهم يتحدثون لغتهم ويتماهون معهم في العادات والتقاليد ومن ثم فهم مثال للقبائل العربية التي (تطرقت) وينتشر التعليم العربي والإسلامي فيهم بكثرة ، ومنهم اشتهر علماء وشعراء .
شريفنغ (الشرفاء) "nobles les": وهم عرب تطرقوا أي اصبحوا توارق و يسمون انفسهم " ايرغن" او " امنان" اي الملوك باللهجة التارقية ، لكن الكثير منهم ما زال يحتفظ بشجرات نسبه العربية، و هي اشرف العرب ومنها خرج سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد علية الصلاة والسلام ومن ابنته فاطمة الزهراء رضى الله عنها خرج آل البيت احفاد السبطين سيدنا الحسين والحسن رضى الله عنهما وهم يحملون عدة اسماء فى الجزائر مثل الأشراف والشرفاء والمرابطيه والمرابطين والزوى وهي كلها اسماء تعنى وتدور فى فلك آل البيت الأطهار واشهرهم هم الحسينيين والسليمانيين والأدارسه والحسنيين ويوجد البعض منهم في كورمه مع كنته أو إفلان، والباقي في الصحراء، ويتوزعون إلى عدة أفخاذ [8].
كيل هوسا "asoh  kel": ويضمون الأفخاذ التالية:كل هوصه الأصليون، كل كمرت، كل طاهروديان، كل تنبوراق، كيلَيْ، كل تينتهون، كل تاداك، كل إندابي، كل طبقات، شرفاء كلاكه، كانيْ، هنكبير، بيبى فاكبين.
إيلّمدن "illmden": وكانوا أهل الإمارة، وينقسمون إلى غربيين وشرقيين، معظمهم اليوم في مالي والباقون في شمال النيجر، وجنوب الجزائر، ويتوزعون إلى:إموشغ (النبلاء) كل إهارن، كل تهيتات، إغطافنن، إلوغمان، إودالن، إمنان، إمغران، إشد نهارن، إمضغن،كيل ولي.
إيدنان "idnan": ويضمون تالكاست (وهم من الأنصار) إينهرن (الغزلان) تايتوق، كل تيرغست.
وكان من ضمن القبائل التي حملت لواء الدعوة مجموعة من أصل شريف هم إفوغاس المنتمين إلى إدريس الأول، ومنهم أُطلق الشرف على عدد من المجموعات المرتبطة بهم، وعرفوا بلقب كلسوق (كل السوق) نسبة إلى المدينة إلى الحاضرة، وانطلاقا من القرن العاشر الميلادي اتجهت قبائل إفوغاس وكيلسوق إلى ما يعرف اليوم بآدرار نإفوغاس، بينما اتجهت مجموعات من سكان كل تادمكت إلى الجنوب واستقرت في الضفة اليمنى للنهر مقابل كاوو[9].
ب) دينهم :  
الطوارق مسلمون سنيون ولقد كان للطوارق دور في نشر الإسلام لا يجهل سواء عندما انطلقوا ضمن جيوش "موسى بن نصير" ، وطارق بن زياد لفتح الأندلس ، أو عندما أسسوا دولة المرابطين (الملثمين ) في المغرب والأندلس أو عندما اندفعوا ينشرون الإسلام في أفريقيا في دولة المرابطين الجنوبية متمازجين مع إخوتهم العرب القادمين من جزيرتهم حديثا . وهم على المذهب المالكي . ويطلق على التوراق في جمهورية مالي بالانصار نسباً ويحبون اللغة العربية كثيرا ، وفيهم الكثير من يحفظ القرءان الكريم ، والحديث وفيهم من يحفظ المعلقات ويحفظ الشعر ، ويمتاز الطوارق بالحياء الغالب عليهم ، وهذا سجية للتارقي اينما كان وقد مدح شاعر الاندلس (ابو حامد المعروف بالكاتب) دولة المرابطين حيث كان امراء دولة المرابطين من ابناء صنهاجة الذين كانوا يضعون اللثام بقوله [10]:   

قومٌ لهم درك العلا من حميرٍ وان انتموا صنهاجةً فهمْ هُـمُ                       
  لما حووا احراز كل فضيلةٍ غلب الحيـاءُ عليهم فتلثـموا


3) أماكن تواجدهم :
يقطن التوارق المناطق الصحراوية على اقاليم لها حدود في شمال افريقيا تمتد من "المغرب" الى جنوب "الجزائر، ومن جنوب "توات" الي "تومبوكتو"،ومن "فزان" الى "زندر" ،في مساحة قدرها حوالي1500 ألف ميل مربع، ويصل عددهم الى الملايين .[11] 
ويتواجدون في كل من تاسيلي ناجر ، الهقار ، النيجر ، ادرار ان يفوغاس (ادرار :تعني الجبل ، وادرار ان يفوغاس يقع في الشمال الشرقي لمالي)  وهم يتوزعون في كل من : ليبيا ، الجزائر، مالي ، بوركينافاسو، وهناك اقليات في تشاد ونيجيريا ، واغلبيتهم يتمركزون في الصحراء ، نيجر ومالي .[12]
كيل اهقار: ويتواجدون في الهقار ، وجبال اهنت واميدير وتفدست .
كيل ادرار ان يفوغاس: يتواجدون في جبال ادرار ان فوغاس الذي يقع في الجنوب الغربي بالنسبة للهقار والشمال الشرقي بالنسبة لمالي .
كيل آير : يسكنون في الهضبة الجبلية من آير ، تتألف من وحدات شبه مستقلة مثل "كيل فوران"، هذا باللاضافة الى بعض الاقليات  ، مثل "كيل جريس "في جنوب السودان ،"كيل ايولمدين" في السهول المحيطة بـ "تاودينك"،"كيل تاديماكت" تتضمن عدد من القبائل والفئات القبلية المحيطة بـ"تامبكتو"و"بحيرة فاجلين".
ويعتبر "كيل ازجر" و"كيل الهقار" من توارق الشمال والفئات الاخرى في حواشي الصحراء و"سافانا" السودانية تعتبر من توارق الجنوب وباعتبار التوارق بربر فهم يسكنون في الصحراء الكبرى وهم منعزلون في صحراءهم ، ويرثون ما لدى اجدادهم من عادات وتقاليد.
4) مكانة المرأة في الاسرة التارقية:
تحظى المرأة في المجتمع الطرقي بمكانة خاصة ومميزة ، فهي على خلاف النسوة في بقية المجتمعات المالكة للبيت أو الخيمة والمتصرفة المطلقة فيها ولها حرية التصرف في تغييره أو بيعه إذا اقتضى الأمر ، و تحمل أشكالاً ورموزًا أخرى تعبر عن ثقافة وتقاليد هذا المجتمع ، ثم إن التوارق أبدعوا في صناعة الحلي الفضي لدرجة أبهرت السائحين الأجانب الذين يعمدون حاليًا إلى شرائه بأثمان فاقت ما يقابلها من ذهب. ومن بين الأمور التي تعكس تمجيد هذا المجتمع للمرأة طريقة زواجها ، فإذا كانت المرأة في باقي المجتمعات تزف إلى بيت زوجها ليلة عرسها فإن المرأة التارقية لا يدخل عليها زوجها ولا تقام ولائم عرسها إلا في بيتها[13].
وتتضح لنا مكانة المرأة التارقية في الاسرة ,وفي المجتمع ككل من خلال الدور الذي تلعبه في تعليم اطفالها اللغة الثقافة وشجرة النسب دون ان ننسى تربيتهم بالدرجة الأولى .
واللافت أن أشهر شخصية في تاريخ التوارق هي امرأة اسمها تينهنان التي فرت في القرن الرابع الميلادي إلى "أبلسة" بتمنراست ، وأسست مملكة الأهقار المترامية الأطراف بين النيجر ومالي ، و منذ القديم عرف الرجل التارقي بالسفر باستمرار من اجل الصيد ، وغيابه لأيام أو شهور جعل المرأة التارقية تعتمد على نفسها في القيام بشؤون العائلة وتربية الأغنام والماعز والإبل واستخراج الماء. ومع أن المرأة التارقية محافظة جداً على العادات والتقاليد ، و لها أيضاً سلطة القرار وحق التملك واختيار الزوج. والتقاليد في هذا المجتمع تقول إن الزوج هو من يغادر البيت في حالات الطلاق ، ولا يحق له أخذ أي شيء معه إلا ما جادت له به طليقته ، والنساء في مجتمع الطوارق يفتخرن بالطلاق ، والمرأة المطلقة تسمى "الحرة"[14].
يرى  "adhpritc  Evans"   ان وضعيتها اقل شأنا من وضعية الرجل اجتماعيا ، وهذا في معظم المجتمعات الا ان كيفية تحويل القبيلة للخيرات والشرف والاحترام الكبير لها والحرية التي تتمتع بها ادى بكثير من الدارسين لهذا المجتمع الى اعتباره امومي .[15]
اما بالنسبة للميراث فانه حقا ينتقل عن طريق الام ، وهي التي تجعل من ابناءها نبلاء او عبيد ، مهما كانت وضعية ابائهم ، لان الام هي التي تحمل ابناءها قبل الولادة فهم ابنائها  ،وليسو ابناء الرجال ,وبالتالي هي التي تمنحهم حقوق الحكم وحتى الارض و المنازل والنخيل ، لكن لا يجب ان نبالغ في تفسير الظاهرة لان ذلك سوف يؤدي بنا الى تفسيرات اسطورية لا علاقة لها بالواقع .
اذا نظرنا الى تفسير الكبار " الشيوخ" لقضية الميراث فيفسرون ذلك بان الرجل اكثر حركة وسفر خاصة اثناء الحروب لهذا فان المرأة هي التي تحفظ املاك الاسرة كما ان الرجال يمكن ان يتزوجوا خارج القبيلة ، وبالتالي سيأتي ابنائهم لاخذ نصيبهم ، وبذلك يتبعثر الارث ويتلاشى ، اما فيما يخص الزواج فان المرأة لها رأي في ذلك اذ لا يمكن اجبارها اذا رفضت الزوج[16].



5) واقع المجتمع التارقي:
درج المؤرخون والرحالة العرب القدامى على تسمية التوارق بالملثمين والسبب الأساسي في ذلك هو محافظتهم الشديدة على هذه العادة منذ فجر التاريخ ، حيث يغطي الرجل رأسه بعمامة من القماش يلفها حول رأسه بإحكام عدة لفات حتى لا يظهر من وجهه سوى أهداب عينيه بالكاد ، يرى بهمًا ، وعلى الرجل أكثر من ذلك أن ينام بهذه العمامة ، وألا يضعها في وقت من ليل أو نهار ، وتذهب بعض الروايات القديمة إلى أن التوارق كانوا إذا خاضوا حرباً وسقط أحد الفرسان لأسباب تتعلق بالمعركة  وسقطت عمامته وانكشف وجهه أمامهم فإنهم لا يعرفونه ، حتى أقرب أصدقائه لأنهم لم يروا وجهه مطلقاً ، ويكون الحل أن يعيدوا لثامه وعندها يعرفونه تلقائياً ، وتختلف التفسيرات المقدمة لعادة " لثام الرجال " هذه ،  ولكن اقرب تفسير إلى الصحة وأكثرها منطقية هو أن الظروف المناخية القاسية للصحراء الإفريقية الكبرى ، هي السبب الأساسي للثام التوارق ، ذلك أن العواصف الرملية والأتربة تملأ جو الصحراء فترة طويلة من العام ، لذا استلزم الأمر من الطوارق ومن غيرهم من سكان المنطقة أن يتعمموا اتقاء للغبار والزوابع الرملية كنوع من التكيف مع بيئتهم ، ولعل هذا التفسير التكيفي هو الأكثر وجاهة لمن يعرف أجواء الصحراء الإفريقية الكبرى  تلك الأجواء نفسها التي فرضت على الضباط الفرنسيين في فرق الهجانة الصحراوية ، أن يكونوا هم أيضاً ملثمين حيث أصبح اللثام يأتيهم من مخازن وزارة الدفاع في باريس كجزء من البزة الرسمية الفرنسية المعتمدة   فمع مرور الوقت تغير كل ما هو تقليدي وبسيط في المجتمع التارقي تغيرا تدريجيا مع التطورات التي حصلت في المجتمع ، وخاصة بعد دخول الإستعمار الفرنسي 1911م حيث مست هذه التغيرات جميع المستويات السياسية ، والاجتماعية و الاقتصادية إبتداءا من  1962م  ثم وضع حد للنظام الاداري الحاضر الذي يتمثل في سلطة" الأمنوكال" التي كانت تدار به منطقتي الهقار والأزجر .  
فالمجتمع البدوي سار بخطى سريعة نحو تغيير نمط حياته التقليدية ، فعلى المستوى السياسي يمثل الامنوكال بدو التوارق على مستور الادارة الجزائرية ، واختلفت وظيفته كسلطان تقليدي ليصبح شيخ للبلدية ،[17] فمنذ الاستقلال لم  تعد قبائل الصحراء تدفع الجزية "التيوسي" للأمنوكال ، الذي أصبح يتمتع بمرتب شهري مقابل وظيفته الجديدة أما بالنسبة للنظام الاقتصادي ، فقد تخلى التوارق عن نشاط الإغارة والسلب الذي كانوا يمارسونه أثناء سنوات القحط والجفاف ، كما أن معظم الرعاة أصبحوا يعتمدون على الزراعة و ذلك بعد استقرارهم في المدن ، ونتيجة اتصال معظم الشعوب والقبائل بالحضارة الغربية اكسبت كثيرا من ملامح النظام الاقتصادي ، وخاصة في أنماط التبادل التقليدي و تجارة القوافل[18].
أما بالنسبة للتوارق أنفسهم فقد ظهرت التغيرات على مستوى مظهرهم ، وهذا في ما يخص اللباس وبعض العادات ، وخاصة لغتهم التارقية التي اصبحت مثقلة بألفاظ ومصطلحات غريبة عن اللغة الاصلية ، هذا بسبب ما تمليه متطلبات الحاضر ، خاصة في اماكن العمل والدراسة في المعاهد والجامعات تفرض على التوارق استعمال لغة غير لغتهم و ارتداء ملابس بعيدة عن تقاليدهم ، كل هذا حتى يواكب الحاضر ويصل الى درجة من التطور حتى يسايروا باقي المجتمعات اما في ما يخص الاتصال الشخصي بين افراد المجتمع التارقي  له دور فعال في الحفاظ على ما تبقى من عادات وتقاليد ، ذلك من خلال تلقين الام أبنائها منذ الصغر اللغة التارقية وسردها لبعض القصص ، التي تدخل ضمن التراث الثقافي التارقي وكذلك بالنسبة لكبار السن وزهدهم بالأمثال والحكم الشعبية التي تلخص تجاربهم في الحياة حتى يعمل بها الاجيال مستقبلا[19] .


المبحث الثاني : التعريف بمدينة جانت و سكانها ، اللغة التارقية وحروفها
1) نشأة  مدينة جانت وتطورها:
يعود تاريخ منطقة جانت الى حوالي 6000 سنة قبل الميلادي ، وهذا بدليل الشواهد المادية والاثار الحجرية التي لاتزال باقية ،  وتتمثل في مجموعة الرسومات والنقوش الصخرية ، والتي تعبر عن تعاقب حضارات مختلفة في هذه المنطقة ، وهناك من الدارسين من يعتقد بأنها مركز للانتشار الحاضر ، فجميع الدراسات التي تناولت موضوع تلك النقوش والرسومات الحجرية تجمع على ان منطقة "التاسيلي" كانت منذ القدم ملتقى الحضارات الانسانية القديمة ، فقد حول لهذه المنطقة موقعها الاستراتيجي ان تلعب دورا هاما ، بحيث انها كانت تتوسط المراكز الحضارية الموجودة حينئذ ، فالمسافة التي تفصلها عن مصر العليا تقارب تلك التي تفصلها عن الخليج "السرت" وشمال بلاد المغرب ونفس المسافة التي تفصلها تقريبا عن اعالي نهر النيجر والصحراء الغربية وجنوب موريتانيا وبالإضافة الى هذا آثار ما قبل التاريخ ، فانه توجد معالم أثرية اخرى تدل على استمرارية حضاريا بالمنطقة ، وهذا رغم الفيضانات التي اجتاحت المنطقة ثلاث مرات وتتمثل في الحفريات التي وجدت في اماكن مختلفة (غير جبلية ) وهي اثار بناءات اقدم من الاحياء القديمة الثلاثة الموجودة الان والتي تم العثور من خلالها على بعض القبور المترسبة فوق بعضها على ثلاث او اربع طبقات .
وقربها ذلك ما ادى بالسكان الى ايجاد حل نهائي لمشكلة الفيضانات وهو البناء على ربوة او هضبة صغيرة لا تعلوها المياه اثناء فيضان الواد. اما تاريخ بناء المدينة ، فهو قديم نسبة ولكن لا احد يعرف وقته بالتحديد ، بينما المعروف هو تاريخ بناء المساجد وقصر "غاون".

ويعود تاريخ بناء اول واقدم مسجد بجانت الى ثمانية قرون ،  (بوسعادة وهجرين سنة 1983 م) وهو المسجد العتيق بزلواز والذي اعيد ترميمه سنة 1971 م ، و يتبعه في القدم " مسجد الميهاد" بسبع قرون اما قصر "غاون" فهو ايضا يتراوح ما بين ثمانية وتسعة قرون .
ومن خلال ذلك يمكن تقدير تاريخ بناء الاحياء الى ما قبل ذلك ، لانها سابقة لقصر غاون من جهة وللمساجد من جهة اخرى لان سكان جانت هم الذين قاموا ببناء قصر غاون ، فكانوا يعرفون البناء وتقنياته قبل مجيء "غاون" ، وهذا ما يبطل اعتقاد "جاردل" بأن (غاون هو الذي اسس جانت في القرن الخامس عشر الميلادي) والى ابعد من ذلك فبصفة عامة فانه تم التأكد من طرف اقدم المؤرخين على وجود المباني والواحات في الصحراء الوسطى ، كما قد اشارت الى ذلك المؤرخ اليوناني هيرودوت ، ولا ننسى ايضا ان المؤرخ السابق عندما تحدث عن الليبيين ( ميز من بينهم ثلاثة اصناف: المستقرون الزراعيون ، الرحل  الرعاة) ، كما اكد المؤرخ شارل اندري جوليان (ان بلاد البربر بصفة عامة قد عرفت بدون شك حياة الحضر منذ العصور الحجرية القديمة).
2) الاحياء القديمة والحديثة لمدينة جانت:
كانت جانت عبارة عن ثلاثة احياء متفرقة متباعدة فيما بينها وتشغل جميع الاراضي الاخرى بالزراعة والاشجار، ومن الواضح انه منذ الخمسينات والاتجاه العام للبناء يمتد الى توحيد ثلاثة احياء منفصلة سابقا وهي  ( زلواز، الميهان ، ,جاهيل) ، فتتسع جانت الان لتصبح مركزا حضريا تأخذ فيه مختلف النشاطات اهمية اكثر فأكثر سواء على المستوى الاقتصادي ، الاداري او الاجتماعي. وكان من نتيجة ذلك ظهور احياء جديدة مثل:
(تين خاتمة ،اغوم ، افري ، ان ابغبغ ...) ويمكن تعريف الاحياء القديمة بأنها مكان لتجمع السكان حسب القبائل والتي تختلف حسب الوضعية الجغرافية[20].
3) طبيعة سكان مدينة جانت :
جانت تشهد تدفق موجات بشرية كبيرة ، سواء المدن الشمالية والجنوبية قريب (غرداية ، ورقلة ، تمنراست ....) والمناطق المجاورة. وهؤلاء الناس الفارين من الجفاف وسوء الأحوال المعيشية (النيجر ومالي ...) هذه الذروة ستكون في أصل العديد من التغييرات ، التي من شأنها أن تزيد من المؤكد أن غموض هذه الفسيفساء الكبيرة التي هي جانت. لسكان جانت " كيل جانت" ميزة فريدة من نوعها في العنصر البشري في المنطقة ، والذي يختلف كثيرا عن بقية سكان "التاسيلي" . اذ أنها لا تزال تحتفظ بالنظام الاجتماعي للتوارق "إموهاغ" لذا يمكن اعتبار القبائل المهيمنة ، هي الطبقة العليا او النبيلة الشريفة " الشرفى". و هناك قبائل (غير السيادية) أو قبائل تابعة وأدنى الطبقات في مجموعات الهرم الاجتماعي هم العبيد" إكلان" والحرفيين "إينظن" ، ويقول لهم سكان جانت المستقرين الساكنون في القصور " كيل اغرمان " الاحرار يزعمون ان السلطة لقبيلة " إمنان" أي الشرفى الملوك او " إرغن" والنبلاء او المتألقين ، وهي من أهم الواحات في صحراء الجزائر و من أفضل الاماكن للاستيطان ، فهي  تستقبل عددا كبيرا من السكان قصد الاستقرار الذين تجاوزوا مسألة النسب[21]


3) لغة التوارق ( تماهق) و حروفها ( التيفيناغ) :
أ) اللغة التارقية ( تماهق):
ترتبط اللغة بالمجتمع وتشغل فيه حيزا ذا اهمية اذ هي اقوى  الروابط بين اعضاء المجتمع، وهي في نفس الوقت رمزا لحياتهم المشتركة، وليس هذا فحسب فاللغة عامل مهم للترابط بين جيل و اخر،فالمجتمع التارقي ينفرد بلغة التخاطب بين افراده تميزه عن غيره من المجتمعات تعرف بـ "تماهق أو تماشق"  فنجد "كيل تايتوق" يطلقون عليها إسم تماشق بينما يطلق عليها كيل ازجر اسم تماهق.
لقد اختلفت معظم الكتابات عن التوارق ، في اصل لغتهم هناك من يقول انها مشتقة من اللغات السامية القديمة ، [22]وفي رأي اخر هناك من يقول أنها من أصل بربري ، أما الرأي الثالث فيقول أنها نتاج محلي و أن أصالتها الخاصة فهي من بين وسائل التعبير الأولوية التي ابتكرتها الأجناس البدائية التي سكنت إفريقيا منذ الاف السنين،وهناك رأي اخر يقول أن لغة التوارق اصلها عربي ، مثل "القشاط محمد السعيد" الذي كانت مهمته إثبات الهوية العربية للتوارق.
انطلاقا من الاراء السابقة يتضح لنا ان الرأي الذي يشير إلى ان أصل لغة التوارق بربري هو السائد،والدليل على ذالك تشابه بعض المصطلحات بين بربر الشمال و بربر الجنوب.
مما لاشك فيه أنه لا يمكن الحديث عن لغة التوارق ، دون الاشارة إلى حروف كتابتها و التي تسمى بـ "التيفيناغ" التي تضاربت الاراء حولها فهناك من ذكر أنها نفس الحروف الفينيقية التي نقلها الفينيقيون معهم من الشام إلى الشمال الإفريقي قبل الميلاد[23].
ولغة الطوارق تجد بها الكثير من الكلمات العربية الفصحى وتجدها في صميم اللغة لا في مستحدثاتها ولنضرب مثلاً :
فالتارقي إذا قال لك أسرع في السير ، قال لك (أَرْكَضْ) وهي كلمة عربية صحيحة وإذا قال لك اجلس قال: (قَامْ) وهي عربية من الإقامة وإذا نفى الطارقي شيئاً قال لك كَلاَ كَلاَ وهي نفس الكلمة العربية المستعملة في النفي كلاّ كلاّ ، وإذا قال لك التارقي إنه يبحث عن فكرة في موضوع ما، واذا قال الدّبَارَة والدّبَارَة هي التدبير أو الدبارة وهي كلمة عربية فصحى ، ويسمي التوارق الرأس (إِيغَفْ) وفي العربية الفصحى خفأ الشيء  وظهر ، والرأس أبرز شيء في الإنسان ، ويقولون للوجه (أُدَمْ) وهي مأخوذة من الأديم وهو بشرة الأنسان أوجلده ، ويقال أديم الأرض أي وجهها ، وإذا قال أحدهم لك فلان نائم قال لك (إِيطاسْ) وفي العربية وطس الشيء في الماء إذا غطسه ، والنوم فيه معنى الغطس في اللاوعي ، ويقول الطوارق للماء (آمَانْ) والعرب يقولون (الماء أمان)
 وللشرب يقولون (اَسُو) وهي يحسو الرجل الماء أو المرق يشربه جرعة جرعة. 
أما سلام الطوارق عندما يلتقون فأكثره عربي صميم  فيقولون :
السلام عليكم : وهي تحية الإسلام
إِيسَلانْ : ومعناها أسألك عن حالك
الخَير غاسْ : إننا في خير عميم ، وغاس نزل وتعمق
ويسألونك عن الاسم فيقولون :
أسْمنّكْ ؟ : وهي نفس كلمة ما اسمك؟ 
وهذا قليل من كثير في صميم لغة الطوارق من اللغة العربية الفصحى مما يدل على أن نشوء اللغتين واحد وبالتالي أن اللغة الطارقية هي إحدى اللهجات العربية القديمة والتي لا تزال بقاياها في حضرموت والمهرة بجنوب اليمن وغرب عمان [24].
ب) حروف التارقية (التيفياغ): 
معظم الدراسات ترجع الكتابة الى القرن الثاني قبل الميلاد ,كما يعتقد أن مجمل النقوشات الليبية المكتشفة في شمال إفريقيا ، لايمكن أن تكون أقدم من تاريخ المجئ الفينيقي إلى شمال إفريقيا (814ق.م) ,وهو تاريخ تأسيس قرطاجة.
وكلمة (التفيناغ) أصلها في التارقية ( تيفرننغ ) ، أي : حروفنا ، وتعد حروف التيفيناغ 25 حرفا ،وهي تكتب من اليمين إلى اليسار ، والعكس صحيح كما يمكن كتابتها من فوق إلى اسفل أو العكس.
ولم تشهد حروف التيفيناغ تطورا حسب علم الأستاذ "الهادي مبروك الدالي" في كتابه "قبائل التوارق دراسة وثائقية " إلا في الاونة الأخيرة منذ عشر سنوات على يد "الشاوي اللالة" فقد قال: "كانت كتابة التوارق منذ نشأتها لم تحظ بالعناية اللازمة لتطويرها فعزمت على سداد هذا النقص وضبط الكتابة به باستحداث سبع حركات أساسية على أن تكون صورها متجانسة لصور الحروف القديمة نفسها [25] ، فرموز التيفيناغ كانت تكتب على الصخور وجذور النخيل والأشجار والجلود ، فكان لها دور فعال أثناء الحقبة الاستعمارية في كتابة الرسائل المتبادلة بين رفقائهم في الجبال قصد نقل الأخبار .
فالقواعد النحوية للتيفيناغ تقتصر على الأسماء فقط ، أما الأفعال فلا تخضع للتغيرات النحوية مهما كان العامل الداخل على بنياتها ، فالأسماء تتغير دخل عليها عامل لفظ النفي ، إذ أن هذه الصفة لا تزيد إسم أي معنى والاسم ينقسم إلا قسمين إثنين هما مذكر و مؤنث . فالمذكر ما ليس في أوله وآخره حرف التاء باستثناء كلمة "أجت" ، وأما المؤنث فنتعرف عليه بعلامتين وهي (أ) وإبتدائه وإنتهائه بحرف ( التاء) مثل :   " تداونت" " تجانت "بينما إنتهائه بالتاء مثل : "سرات" "ماغت"[26].
الفصل الخامس: عادات المشاهدة التلفزيونية لدى الاسر التارقية واتجاهاتها نحو التلفزيون . الفصل الخامس تطبيقي .